د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة, لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني مولداً, الأندلسي التغلبي نسباً, وشنترين تقع في البرتغال اليوم, وكان يتردد على بطليموس ولشبونة, وقابل الشاعر عبدالمجيد بن عبدون سنة 477, وعاش في رغد من العيش والمجد, إلا أن الأيام قد جارت على بلده وعليه فاضطر مرغماً للذهاب إلى أشبيلية عام 485, وقد وصف أنه حل بها بعد أن كسدت بضاعة النقد الأدبي, فليس له سوق, ولم يتعاون معه أدباء ذلك الزمان, وهو الناقد الحريص على جميع مآثرهم, وذلك لريبة حلت في قلوبهم, ظناً منهم أنه يريد أن يتكسب بشعرهم ونثرهم, فحرموا أنفسهم عن تسجيل آثارهم في هذا السفر الجليل, وحرمونا من الاستمتاع والاعتبار من شعرهم ونثرهم, وقد رأى المعتمد بن عباد في آخر أيامه وقبل سقوط دولته, كما صادق أبابكر منجم المعتمد بن عباد.أثناء تجوالي في هذا الكتاب, توقفت عند ذكر الوزير الكاتب ابي المغيرة عبدالوهاب بن حزم, وبعد التمليح في المقدمة كما هو شأن الكتاب, ننقل شذرات مما سطر, ولعله في ذلك يعتمد أحياناً على شيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان, فقال أنه خالط حكام زمانه, ونال من دنياهم خيراً كثيراً, وحدث بينه وبين ابن عمه العالم الفقيه محمد بن حزم الظاهري المذهب, المشهور شهرة لا يحتاج معها إلى نعت, هنات, متلاحيا, وهو أقرب إلى قلوب الأمراء من ابن عمه لأنه صاحب اللواء في الهزل والجد, كما أنه ألين عريكة من الفقيه بن حزم الذي صارع أهل زمانه, حتى طرده حكامها إلى البادية, وأحرقوا كتبه.لقد كاتبه أهل عصره وكاتبهم, ومنهم أبو علي بن الربيب الغزوي, الذي كتب رسالة يمدح فيها الأندلس, ويذكر أنها إن بارت صناعة أو تجارة فإليها تجلب, وبالغ في المديح والاطراء, ربما لإظهار انتمائه إلى جملة الأدباء, ومع ذلك الإطراء, فهو يلوم أهل ذلك المصر أنهم لم يسودوا قرطاساً بمحاسن أهل جزيرتهم.
هذا رأيه في أدباء الأندلس, وما أراه قد أصاب, فالحق أنهم قد دونوا الكثير, وأبدعوا في التدوين, وجادوا علينا بمحاسن فنهم, ومآثر جدهم وهزلهم, وأخبار سلمهم وحربهم, ومآسيهم ومباهجهم.
لقد كان جواب أبي المغيرة عبدالوهاب بن حزم, جواب الأديب اللبق, بأنه وقف على الصحيفة أي الرسالة التي ظاهرها ديباج مرقوم, وباطنها لؤلؤ منظوم, ووشي محبوك, وذهب مسبوك, وأنه قد رأى بها صور الأدب باهرة الرأي والعيان, شاهدة لها بأذلق لسان, وأصدق بيان, ثم شكره على ثنائه على بلدهم, وعلى علومهم التي رعوها بأوفر الأقسام, واحتلالهم من ذلك بالغارب والسنام, حتى عارض الجبان الأسد, وناطح الجوزاء الجلمد, وناطق الأعجم الفصيح, وبارى الجاهل العالم, وجارى القاعد القائم, تحاسداً على الفضائل.
وقد وافقه عبدالوهاب في عتبه على أن أهل الأندلس إذ لم يخرجوا ما في مكنونهم من درر الأدب, ويستشهد بقول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حباً
ولكن لا حياة لمن تنادي
وربما أن ذلك مرده إلى أن هؤلاء الأدباء لا يبوحون بما يعلمون, خوفاً على مكانتهم لدى الحكام, وخشية من الانتقام, لا سيما أن أولئك المتربصين, لا هم لهم إلا التقاط الريب, ونشرها.
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً
منه, وما سمعوا من صالح دفنوا
لن أطيل في الاستشهاد والنقل, وإن كان فيه در منثور, وخفي مستور.
وفي أدب أبي المغيرة بن عبدالوهاب هذا, كأكثر أدباء الأندلس الكثير من الملح, والتسامح في الحديث حول مجالس الأندلس, والتغزل بكل جنس, ونحسبهم سامحهم الله يقولون مالا يفعلون, شأنهم شأن الشعراء الذين في كل وادٍ يهيمون, وهم حقاً كذلك, في ذلك العصر الذي كثرت فيه دويلات الأندلس, فكل شاعر لا يجد بغيته عند حاكم يرحل جهراً أو سراً إلى حاكم آخر لعله يجد عنده ما يروم, وينال شأو يدوم, والأمثلة كثيرة, ولعل في أحمد بن زيدون الشاعر الأندلسي المشهور, أوضح الأمثلة, فقد هرب سراً من سجن ابن جهور, بعد أن كان شاعره, بل وصاحب الفضل في وصوله إلى الحكم, بعد أن شارك في زوال الحكم الأموي, وظهور حكام الطوائف, وهذا الشاعر الأديب الوزير السفير, غادر إلى المعتضد بن عباد فأصبح صاحب الوزارتين, عند حاكم لم يسلم من غدره وبطشه أحد من أعوانه, وقد ساعد دولته في الوثوب إلى قرطبة, والقضاء على دولة من طردوه, وغيره كثير.هذه قطوف أدبية تزيل من أذهاننا هموم السياسة, ومناظر القتل والظلم والشراسة, وحلب الجريحة خير شاهد, وعبرة لكل منصف وماجد, و ندعوا الله أن يحسن الأحوال, ويبدد الأهوال, وأن يجمع الناس على الخير, ليأمن الإنسان والطير, وهو على كل شيء قدير.