«الجزيرة» - فن:
في كتاب «كيف تصنع فيلما» يتساءل المخرج الإيطالي فيدريكو فيلّيني، ما هي فلسفتك فيما يتعلق بصنع الأفلام، وأيّ هدف يحدّد خلال تصويرها، وهل هناك أهداف خفية باستثناء إمتاع الجمهور؟ أسئلة لا أعرف على الإطلاق الإجابة عنها، أعتقد أني أخرج الأفلام لعجزي عن القيام بشيء آخر، ويبدو لي أن الظروف قد تشكّلت على الفور بشكل تلقائي وطبيعي، لتسهيل هذا الأمر المحتوم.
يقول فيديكو، ذكرت من قبل أني لم أكن أتوقع اشتغالي بالإخراج، ولكن بدا لي منذ اليوم الأول، منذ أن صرخت للمرة الأولى: كاميرا، أكشن، ستوب، أن هذا ما سأقوم به دائماً، وأنه ليس بإمكاني فعل شيء آخر، فهذا أنا وهذه حياتي. لا أتطلع إذن خلال تنفيذي للأفلام إلى أيّ شيء آخر سوى طاعة هذا التوجّه الطبيعي، سرد القصص من خلال السينما، قصص تناسب شخصيتي ويروق لي سردها، في مزيج متداخل من الصراحة والابتكار، الرغبة في إثارة الدهشة، في الاعتراف، وتبرئة الذات.
في الأفلام الأمريكية، نجد أن من يحمي القانون هو عمدة البلدة وكل المساعدين الذين يمتطون جيادهم و يطاردون الأشرار. أو كما هو معمول في المدن الكبيرة حيث ناطحات السحاب، والأفراد المشغولون في مكاتبهم، حيث المهن والكرامة والرفاهة والحرية التي فيها يمكن التخطيط بجسارة لوجود من الطراز الأول.
أو تلك الأسطورة الأنجلو - سكسونية عن الديمقراطية التي يتنفسها أطفالهم منذ بلوغهم الستة أشهر من أعمارهم، متعلمين احترام، إن لم يكن تقاسم، قرار الأغلبية، ذلك لأن لديهم الوسيلة لأن يصبحوا أغلبية و لأن يغيروا مجرى التاريخ.
نحن ربما نفتقر إلى كل دروس الحضارة والوعي تلك، وهذا الافتقار تركنا، بطريقة أو أخرى، مع قناعة راسخة بأن السياسة ينبغي أن يمارسها الآخرون، الذين يعرفون كيف يتعاطونها.
السيناريو هو الذي جاء إليّ ليغويني، والشيء الأساسي في تحقيق فيلم واقعي جديد هو احترام الواقعية مهما كلف الأمر بوصفها حدثاً وجوديا مقدّسا، راسخا، غير قابل للتغيير، ومحظورا مسّه. المشاعر الشخصية، والضغوطات الذاتية، والحاجة لأن تختار، لأن تعبّر عن الحس الفني.. كلها خاضعة للسياسة، وأي شخص بإمكانه أن يحقق أفلاما، كل شخص ينبغي أن يحققها، جمالية اللا جمالية، والتي ساهمت بدور كبير في الأزمة الراهنة لسينمانا.
الإضاءة هي الجوهر الحقيقي للفيلم، فالإضاءة هي أيديولوجيا، وشعور، ولون، ونغمة، وعمق، وجو، وسرد قصة، الإضاءة هي كل ما يضيف، يحذف، يختزل، يكثـّف، يثري، يخلق فوارق دقيقة، يؤكد، يلمّح.
الإضاءة تجعل المتخيّل أو الحلم قابلا للتصديق ومقبولا، من جانب آخر، تجعل الواقع خياليا ووهميا، تحوّل الرتابة اليومية إلى سراب، إنها تضيف شفافية، تقترح توترات وذبذبات.
الإضاءة تحفر الوجه وتكتشفه أو تصقله، وتخلق تعبيرا حيث لا يوجد أي تعبير، تهب البلادة مع الذكاء، والشيء التافه وغير المشوّق تجعله يبدو مغويا، وهي ترسم محيط الجسد وتحدّد أناقته، تبجّل الريف الذي ربما لا يكون ذا قيمة بذاته، وتضفي سحراً على الخلفية.
الإضاءة هي المؤثر الخاص البارز، ضرب من الماكياج، البراعة في الخداع، الافتتان، مختبر الكيميائي، آلية العجائب، والإضاءة هي ملح الهذيان الذي، مشتعلاً، يحرّر الرؤى.
كل من يحيا في الفيلم يحيا بواسطة الإضاءة، كل تصميم أوّلي للمناظر، أو تصميم فج وغير مصقول، يمكن بواسطة الإضاءة أن يكشف عن منظورات غير متوقعة، أو يغمس القصة في جو حاضن ومهدئ، بمجرد استبدال المصدر الضوئي القوي بالظلال، فإن تغيّر الإضاءة يمكن أن يبدد الإحساس بالألم ويحوّل كل شيء إلى حالة من الصفاء، الحميمية، الطمأنينة، الأفلام مكتوبة بالإضاءة، تعبّر عن أسلوبها بواسطة الإضاءة.
أنا لا أحترم أولئك الذين، باسم المنظور التاريخي، يطلبون منا أن نحجم عن إدانة الإرهاب لأن جرائم معينة ربما سوف تعتبر أفعالا وطنية في المستقبل. أنا لا أملك على الإطلاق ذلك النوع من الحس التاريخي، وكنت أفضـّل لو جئت قبل مولدي بعشرين سنة، آنذاك كان بوسعي أن أصنع أفلاماً مع الرواد.
إن مساهمتي في ولادة السينما ستكون مرضية لمزاجي وحساسيتي أكثر من الوصول بعد أن تم فرض قوانين الفيلم الخاصة: قوانين محتومة تجعلك مطلّعاً وملمّاً بالشروط الفنية والثقافية لكنها تحرمك من ذلك الجو الضاج والمقلق، تلك البهجة الضارية التي ربطت السينما بالسيرك وجعلتها تبدو كجوهر رمزي لسحر الحياة.
في صالة السينما، حتى إذا لم نكن نحب الفيلم، فإن سحر وجاذبية وحجم تلك الشاشة الهائلة تجعلنا نمكث جالسين أمامها حتى النهاية.. إن لم يكن بدافع آخر، فبسبب اقتصادي، ذلك لأننا دفعنا ثمن التذكرة. أما الآن، وبنوع من الثأر والضغينة، عندما يطالبنا الشيء الذي ننظر إليه بانتباه واهتمام أكثر مما نرغب في توجيهه وإبدائه، فإننا نسارع إلى الضغط على الزر لنخرس الشخص المتكلم، ونمحو الصور التي لا تثير اهتمامنا.
ولد فدريكو فلليني في 20 يناير 1920 بمدينة ريميني بإيطاليا، وتوفي في روما، في 31 أكتوبر 1993 بعد إصابته بنوبة قلبية، وبدأ في كتابة السيناريو، لمخرجين آخرين، منذ 1943 وحتى 1952، أما أبرز أفلامه كمخرج فهي، «L›amore in città»، و«Vitelloni» سنة 1953م، و«La Dolce Vita» سنة 1960.