نجيب الخنيزي
الحدث الأبرز في المشهد الأمريكي الداخلي في الوقت الحاضر، يتمثل في التحضيرات المحمومة للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة المزمع إجراؤها في 8 نوفمبر القادم، والتي يتزامن معها انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشيوخ.
المتابع للانتخابات الأمريكية يتوصل إلى استنتاج فوري في كونها فريدة من نوعها على صعيد المضمون والشكل والآليات مقارنة بالانتخابات الأخرى في العالم، كما أنها الأكثر إنفاقاً من حيث الأموال، حيث تصل تكلفتها في المتوسط إلى حوالي 3 مليارات دولار. تمتد تحضيراتها المعقدة لفترة طويلة وعلى عدة مراحل، تبدأ هذه المراحل بما يعرف بالانتخابات التمهيدية، لتتلوها المؤتمرات القومية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، التي يحدد فيها المرشح لسباق الرئاسة، لينطلق مرشح الرئاسة بعد ذلك في حملته الانتخابية إلى أن يصل إلى يوم الاقتراع، غير أن فوز هذا المرشح أو ذاك لا يقرره الشعب الأمريكي عن طريق التصويت المباشر، وإنما يقرره المجمع الانتخابي المكون من 538 والمرشح الذي يحصد أصوات 270 من كبار الناخبين يفوز في الانتخابات.
تعد حملة الانتخابات الأمريكية الراهنة من أسخن الحملات التي شهدتها الولايات المتحدة على الإطلاق، وقد جذبت المناظرة الأولى بين المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون والمرشح الجمهوري دونالد حوالي 84 مليون مشاهد عبر قنوات التلفزيون الأمريكية، وهي أعلى نسبة مشاهدة على الإطلاق خلال 36 عاماً، غير أن المناظرة الثانية شهدت تراجعاً نحو 20 بالمئة عن المناظرة الأولى.
الانتخابات الأمريكية تتمظهر بكونها سباقاً أو مارثوناً بين المرشحين للاستحواذ على مشاعر وقلوب الجمهور قبل عقولهم، وذلك من خلال عملية التمسرح (شو) والشكل والإخراج المهرجاني (كرنفال) على الطريقة الهوليودية، حيث تتصدر هيئة وزي وشكل المرشح، وإيماءاته وحركته الجسمانية ونبرات صوته، ناهيك عن الخلفية التي هي عبارة عن مسرح حقيقي مع وجود جمهور صاخب.
في هذا السباق المحموم، في أكبر وأقوى دولة في العالم، والتي تمتلك القدرة على تشكيل حاضره ورسم مصيره إلى حد بعيد، تغيب البرامج الانتخابية الجدية، في ما يتعلق بالسياستين الداخلية والخارجية، وهو ما عكسته المناظرات بين المرشحين حيث تصدرت القضايا الهامشية، والحياة الشخصية ، ومحاولة تصيد أخطاء (ممارسات وأقوال) الخصم بطريقة ذرائعية (برجماتية) على الطريقة الأمريكية.
هذا الأسلوب الأمريكي قد أثمر جيداً، حيث اتسع فارق النقاط ما بين ترامب وكلينتون لصالح الأخيرة في أعقاب المناظرتين، وأصبحت حظوظها بالفوز أكبر من أي وقت مضى. هناك عامل آخر يعزز ذلك هو سعي كلينتون لتبني بعض شعارات خصمها الديمقراطي بيرني ساندرز الذي كان على يسارها، وشكل أول اختراق جدي للمؤسسة الأمريكية الحاكمة ، واستطاع ان يجتذب قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي وخصوصاً بين الشباب من خلال تركيزه على الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، وتركيزه على قضايا مهمة كالعدالة الاجتماعية، وتنظيم الهجرة، ومكافحة البطالة والفقر، وتخفيض الضرائب عن محدودي الدخل مقابل رفعها على الأغنياء.
غير أن العامل الرئيس في تقدم كلينتون والاحتمال القوي لفوزها يكمن في دعم غالبية الطبقة السياسية التقليدية، والمؤسسة البيروقراطية الحاكمة ودوائر صنع القرار (التي تنحدر مها كلينتون) بما في ذلك بعض أقطاب الجمهوريين، خصوصاً في ظل تصريحات ترامب الشعبوية الفاقعة والمحرجة وذات الطابع العنصري، في ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، والموقف المناهض للاجئين العرب والمسلمين، وتعهده الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وطرحه تقديم المال كشرط لمواصلة دعم وحماية الحلفاء، ومواصلته الإشادة بمواقف خصم الولايات المتحدة اللدود الرئيس الروسي بوتين، إلى جانب تكشف بعض القضايا الشخصية المحرجة كتهربه الضريبي، وتحرشه الجنسي، وكلماته المهينة عن المرأة والسود.
بطبيعة الحال ليس كل ما يقوله كلا المرشحين سيترجم على أرض الواقع. كما أن الرئيس سواء أكان جمهورياً أم ديمقراطياً لا بد له من الانصياع للمؤسسة الحاكمة بتشعباتها، من الكونغرس والبنتاغون والاستخبارات ومجلس الأمن القومي، ومركز القوى (اللوبيات)، إلى جانب مصالح المجمع المالي/ الصناعي/ العسكري المهيمن في الولايات المتحدة، والذي يمول بدرجة كبيرة الحملات الانتخابية، وهي في مجموعها تمتلك القدرة والتأثير في تحديد سياسة الرئيس أيا كان انتمائه. للحديث صلة.