ذكرت أنّ التنوع في المجتمعات نوعان: تنوع ثابت وتنوع متغير، المجتمعات التي لم يحدث فيها تغير ملحوظ في تركيبة سكان المجتمع وفئاته، منذ تأسيس الدولة وحتى الآن يمكن اعتبار التنوع فيها تنوعاً ثابتاً، بمعنى أنّ الدولة حين تأسست حوت فئات معيّنة بنسب مختلفة، هذه الفئات ما زالت هي من تكون طبيعة المجتمع وبنفس النسب تقريباً، وليس المقصود بعبارة (نفس النسب) المعنى الدقيق لها، إنما المقصود أنّ الفئات التي مثلت أغلبية في الماضي لا زالت أغلبية وليس هناك ما ينبئ بتغير حالها مستقبلاً، والأقلية لا تزال أقلية ولا يوجد ما يظهر احتمالية تحولها مستقبلاً لتصبح ذات أغلبية، التنوع في الولايات المتحدة تنوع متغير، لكل حقبة زمنية تركيبة سكانية تختلف عن الحقبة السابقة واللاحقة، فئات مختلفة تكونت مع مرور الوقت على مستوى العرق واللون والثقافة والحزب وأيضاً على مستوى جنس البشر، لم تكن جميعها تمثل الولايات المتحدة حين استقلالها، غير أنها تكونت مع الوقت، هذه الاختلافات أيضاً متغيرة النسب، هناك فئات عددها في ازدياد، بينما فئات أخرى في تناقص، ومن يمثل أغلبية ليس بالضرورة أن يبقى كذلك، والعكس صحيح.
التنوع في الولايات المتحدة أحد القضايا المحورية المطروحة باستمرار داخل المجتمع الأمريكي ومؤسساته، المؤسسات أصبحت ملتزمة بتحقيقه، لم يعد همّ المؤسسات فقط إظهار نزاهة قراراتها من التمييز أو خلو أنظمتها من إقصاء فئة أو فرد بسبب مرجعيته أو جنسه، ما تسعى إليه المؤسسات الآن هو ظهورها في زي التنوع، أصبح التنوع أحد أهدافها، ولذلك تعمد إلى تنويع العاملين في الشركات وتنويع الأساتذة والطلاب في الجامعات، وتقديم هذا الهدف على غيره، ومن المهم أن نشير إلى أن فرض التنوع في المؤسسات الأمريكية لم يكن منشأه فقط الإيمان بقيمة التنوع، إنما كان أيضاً ردة فعل للتمييز الذي مارسه البيض ذو الأصول الأوربية ضد غيرهم، وعلى هذا الأساس فالسعي نحو تحقيق التنوع هو بمثابة إعلان بأن التمييز لم يعد له مكان في المجتمع الأمريكي ومؤسساته، وأن الرجل الأبيض لم يعد يتفرد بامتلاك ما لا يستطيع غيره امتلاكه، ولذلك لم يكن منشأ سعيهم في البداية نحو تحقيق التنوع أن تكون طبيعة العاملين داخل المؤسسة مرآة لطبيعة التنوع خارجها، ليس هذا المفهوم للتنوع هو المقصود في بداية الأمر، تحقيق التنوع يعني إشراك أبناء الأقليات في المؤسسات مع أقرانهم البيض، إذن الجميع ليسوا مادة التنوع، مادة التنوع ومحوره هم أبناء الأعراق الأخرى، وتحقيق التنوع في مؤسسة ما إعلان منها أنّ المؤسسة لا تقتصر على توظيف البيض لوحدهم، فبابها مفتوح لغيرهم، وفرض التنوع إثبات لهذا الأمر.
فرق كبير بين أن يكون مادة التنوع فئة أو فئات بعينها وبين أن يكون مادتها الجميع، يمكن أن ننادي بالمساواة لفئة أو لشخص، ويمكن أن ننادي بالعدالة لجماعة بعينها أو لأفراد بعينهم، غير أنه لا يمكننا أن نفعل الفعل نفسه بالنسبة للتنوع، السبب أن التنوع يعني حضور الجميع، وبذلك تصح العبارة حين ننادي بالتنوع في مجتمع دون تخصيص، ما يحصل في الولايات المتحدة من ربط التنوع بفئات معينة وليس بالجميع، جاء نتيجة تاريخ طويل من الظلم والاضطهاد مارسه البيض في حق غيرهم، لقد مارسوا الظلم بأبشع أشكاله ضد السود وضد غيرهم من أبناء الأعراق الأخرى، جميع الحركات الحقوقية كانت لإيقاف ظلم الأبيض لغيره، ظلم الأبيض للأسود، وظلم الأبيض للآسيوي، وظلم الأبيض للاتيني، كان الأبيض دائماً طرفاً في أي حادثة ظلم وإقصاء، ودائماً طرفاً ظالماً وليس مظلوماً، لم يحصل أن قاد العرق الأسود حملة ضد العرق اللاتيني، أو نظم الآسيويون حركة حقوقية ضد السود، الجميع عانوا نفس المشكلة ومن نفس الفئة، جميع الحركات الحقوقية كانت ضد تجاوزات الأبيض وطغيانه.
هنا مثلما كان الأبيض طرفاً في فعل الظلم، أصبح طرفاً في فعل العدل، لقد أصبح هو المعيار الذي به تقاس عدالة المؤسسات ومدى تحقيقها لمبادئ حقوق الإنسان، فالعدالة هي أن يُعطى غير الأبيض مثل الأبيض، والمساواة أن يتساوي غير الأبيض بالأبيض، والتنوع أن يشارك غير الأبيض الأبيض، أصبح معيار الحكم على تمييز مؤسسة ما من عدمه مرتبطاً بعدد البيض مقارنة بعدد غيرهم.
في الماضي كان الرجل الأبيض رافضاً لقبول مبدأ أن يكون لغير عرقه حقوق كحقوقه، لم يكن يؤمن بوجود الآخرين كمواطنين، وكما هو معروف فمعظم الجماعات لم يكن يُعترف بأفرادها كمواطنين حتى جاء الاعتراف لاحقاً، وحتى منتصف القرن الماضي والتمييز يُمارس في العلن وباسم القانون، هذه الفترة الطويلة من الظلم والاضطهاد خلفت أزمة كبيرة في المجتمع الأمريكي، فئات وأعداد كبيرة تنادي بغضب حقها المستلب في كل شيء، حقها في التعليم، حقها في التوظيف، وحقها في جميع خدمات الدولة، المشكلة التي واجهها الأبيض هي أن غضب الأقليات موجهٌ ضده، ومطالبها موجهة أيضاً إليه، ولذلك أصبحت مهمة هذا الأبيض أن يُغير وأن يظهر صدق نواياه في التغيير في أسرع وقت.
حين أخل البيض بميزان العدالة والمساواة نتج عن هذا الخلل خلو الوظائف - سوى الدنيا - من أبناء الأقليات، هذه الهيمنة والسيطرة على كل شيء كانت نتيجة طبيعية لممارسة التمييز، هنا أصبح واجب الأبيض - كما ذكرت - أن يثبت صدق عزيمته على التغيير واستبدال الظلم بالعدالة والإقصاء بالمشاركة، تحقيق العدالة ليس بالأمر السهل، وكذلك ليس بالأمر الذي يمكن إنجازه في وقت قصير وفي ظرف نفد فيه صبر المهمشين، لذا جاء الحل من رحم المعادلة السابقة، في الماضي كان هناك تمييز والنتيجة تمثلت في هيمنة أفراد فئة على الوظائف وخلوها من أفراد الفئات الأخرى، ما فعله البيض هو الالتفاف حول النتيجة، أي تغيير النتيجة، بمعنى أنهم اعتمدوا المعادلة التالية: بما أنّ المشكلة تمثلت في خلو الوظائف الجيدة من أبناء الأقليات بسبب التمييز ضدهم، إذن الحل في جعل جزءٍ من تلك الوظائف لهم، من المهم هنا ملاحظة أنّ الحل لم يكن في القضاء على التمييز، وإنما في القضاء على حالة الهيمنة التي تمتع بها البيض، وهو حديثنا في المقالة القادمة.