مفهوم القدوة من المفاهيم الملتبسة في الثقافة العربية وأضمرت أنساقا ثقافيّة نخرت في جسد فرادة التجربة الشخصيّة ومسخت هويّة الإنسان المُقتدي وجعلته مقيّداً برؤية المقتدى به حتى استحال الاقتداء إلى حالة خواء أخلاقّي وفكري وتقليد أعمى للمظاهر السلوكيّة السطحيّة، وهي بذلك تتعارض مع مبدأ الظرفيّة الزمانيّة والمكانيّة وما تفرضانه من متغيّرات تستلزم الخروج من عباءة الأشخاص لمواجهة التحديات المستجدّة والمتطوّرة.
الاقتداء في جوهره لا يمكنه أن ينفصل عن السياق التاريخي إلا من خلال القيم الأخلاقية الكبرى كالتسامح والصبر والشكر والتضحية وغيرها من المعاني السامية التي تتعالى على الظرفيّة الراهنة، أمّا الأشخاص فهم ليسوا قدوات من حيث تكوينهم البيولوجي والجيني، وعندما تغور أجسادهم تحت الثرى لا يبقى سوى سيرتهم المرويّة بوصفها شاهدًا على مدى ارتباطهم بالمُثُل العليا، ووحدها تلك المثل هي من بمقدورها الانتقال عبر الزمان والمكان لتكوّن المفاهيم الإنسانية القابلة للاستمرار والصالحة للاقتداء.
في محكم التنزيل لم يوصِ الله رسوله بالاقتداء بالنبيين من قبله، وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ. وهو توجيه ربانيّ بأن يقتدي الرسول الكريم بهدى الأنبياء السابقين وليس بالنبيين أنفسهم؛ لأن الإنسان يظل حبيس تجربته الذاتيّة، والأمر بالاقتداء المطلق يتنافى مع العقل ويقوّض خصوصيّة الفرد، ويحجّم من إمكانات التفرّد الخلاق ويجدّف عكس تيّار التقدم المعرفي والأخلاقي المتسم بالتراكميّة والفرادة في تشكلها وتجاوزها لما سبقها من تشكلات.
التناقض البارز في مقاربة دلالات مفهوم الاقتداء تظهر في تتبعنا لسيَر القدوات في الثقافتين العربية والإسلاميّة، معظمهم كان تحديثيا وتجديدياً في فكره ومنجزه، ولم يقف إنتاجه المعرفي عند حدود من سبقه من رموز، ورغم ذلك وجدت خطواته التجديديّة مباركة الأجيال اللاحقة حتى جعلوه منهم، لكن أولئك الأجيال أخذوا يحاربون من يسير على خطى رموزهم في التفرّد والإبداع.
وقد سئل المحدّث محمد ناصر الدين الألباني عن حقيقة تضعيفه لبعض الأحاديث النبويّة الواردة في صحيح البخاري، فأجاب بأن صاحب الصحيح قد اجتهد ولكني وجدت في مؤلفه بعض الأحاديث التي لا تصح عن رسول الله إمّا لعلة في سندها أو متنها. وكانت لخطوته الجريئة في مراجعة ما جاء في الصحيح وغيره من المسانيد دور بارز في جعله رمزاً من رموز علم الحديث دون أن يخفت بذلك ضوء الإمام البخاري أو الأئمة الآخرين.
إعادة فهم الاقتداء في الثقافة العربيّة ضرورة لتجاوز مرحلة الركود الفكري الناتج عن اجترار المنجز التاريخي العربي والإسلامي بوصفه منجزًا غير قابل للتطوّر، أو باعتبار تحديثه تمردًا على الشخصيّات المُقتدى بهم، ومن هذه النقطة تبرز إشكاليّة تنصيب الرموز التاريخية بوصفهم قدوات، وهذا الفهم تحوّل إلى أداة لمحاربة أي تجديد يصبّ في مصلحة القيم الكبرى التي تتماشى مع المشاريع الفكريّة التي نادى به رموزنا الثقافيون والدينيون.
- ماجستير في النقد والنظرية