علي الدميني
لا يتوجع الشاعر المهموم بقضايا الجماعة بشكل مباشر عنها، و لكنه يذهب إلى اللغة التي تتلبس بثياب الشعرية، إيحاءً و مجازاً
وتورية، فتتداخل سيرهم بسيرته، ونصوصهم المتناثرة في المدن و البراري بنصه.
و في قصائد المرحلة الخصبة الأولى من تجربة الشاعرة، يمكننا أن نقرأ ديوانيها الأولين بعين سردية، ترى فيهما وحدة كبرى لنشيد شعري ملحمي، يتنامى كوحدات صغرى متعددة، رؤية وتشكيلاً، يحضر فيها ذلك البعد، ابتداءً من الكلمة الحاملة لدلالات متشظية وحارقة، مثل «المفاوضات، و المصالحة، وأريحا، وظفار، وصبرا وبهيّة المصرية». ومنها المقاطع القصيرة مثل:
«أنت الهواجس و النبوءة و تحققها
فكيف نتركك وحدك في العمل
ننصرف إلى عناق الطواطم
و اعتناق الأوهام
و نأتي حيارى كل مساء
بأننا لا نحارب سوى العنقاء» (قصيدة إلى عاملة الرحى - ص 118- الأعمال الشعرية)
ومنها التشكل الكلي للقصيدة الواحدة، أو لعدد من القصائد.
و في هذه المقالة، سأقف على بعض ملامح التناص الداخلي لقصائد الشاعرة التي تحيل إلى بعضها، والتناص الخارجي لوقائع الحياة مع نصوصها، ليغني بعضها بعضا، تعبيرا و تشكيلا لموقفها، بصفتها رؤية كلية للشاعرة، تغتني بمادة الخطاب و تتنامى في نصوصه، معنىً و مبنى، و تتجلّي الدلالة في الموقف من بهيّة المصرية. (قصائد:من يقاسمني إرث أمي، و إلى عاملة الرحى، و نشيد بنات المكلا)، ونلمح فيها تعالق الذات بالأم مقابل تعالق الجماعة بالأمة، و اقتران الذات بالجماعة مقابل امتزاج الأم بالأمة، حيث تغدو العلاقات في مادتها وتشكيلها علامة على اشتغالات تجربة الشاعرة وإبداعاتها خلال مرحلة تصل الى حوالي العقدين من الزمن.
و حيث تتناص «الأم» في قصيدة الإرث، مع قصيدة «إلى عاملة الرحى» المهداة إلى أم محمد الجزيرية و إلى أم سعد الغسانية،
وتغدو تعبيراً كنائياً مباشراً عن «الأم» في بعدها البشري، إلا أنها تصبح ترميزا لقيم وحالات إنسانية كبرى، وفيها يتبدى التعالق النصوصي داخل تجربة المبدعة، حول إرث الأم والسيف، مادةً و دلالات، لتبثّ فاعلية تناصها الدلالي عبر فضاءات ترابط الأمكنة وتلاحم مشاعر الشعوب العربية مع ضميرالشاعرة الإنساني والوطني والقومي في «نشيد بنات المكلا».
«من يشاركني إرث أمي؟»
في حالة الإرث المادي لا يطلب الوريث من أحد سواه أن يقاسمه الثروة و الجواهر و الحلي،ولكن هذا الاستفهام الطلبي
والتحفيزي يتكشف في القصيدة عن إرث قيمي ورمزي مختلف، وباهظ التكلفة!
«أمي
لم تورثيني من «ظفار» وعمان وزنجبار،
عقود عرائسها، المطعمة باللؤلوء و الدمع و المرجان،
لكنك
أعطيتني الجيد الصاعد إلى السماء \ برفض الشنق بألوية الأرواح التي تموت في اليوم سبع مرّات..
....
لم تورثيني من «صبيا» برقعاً موشى
...
لكنك أعطيتني حدّة الصقور في عيون فتياتها.
......
أمي كنت أنتظر أن أجد في تركتك بذرة جنات عدن..... لكنني وجدت «سيفاً» بلا غمد.... منقوش عليه اسم طفل منذور
وحتى لا أضيعه تفتحت كل مسامي أغمدةً دافئةً له...
غمدته في مهجتي ... فلم يسعه الجدار
غمدته في رئتي.. فلم تسعه النافذة (ص 97 – المجموعات الكاملة)
في هذه القصيدة المنسوجة من جماليات المشهدية الملموسة باليدين، نحسها وقد انزاحت عن بعدها المادي واليومي لتشكل عالما موازياً من مجاز العبارات الشعرية الفاتنة والدلالات و الإحالات الغنية بأبعادها الإنسانية التي تشير إلى حضور المثقف
ومسئوليته عن قيمه وأحلامه وأمانيه المشتبكة مع هموم و أحلام الوطن و الأمة.
و تندمج شعرية القصيدة بسيولة البعد السردي المحمل بمكوناته الملحمية في اشتباك الأنا بالمكان والإنسان والتاريخ و مهمات اللحظة، حيث يصبح الإرث «سيفاً» بدون غمد، ممتدا من ظفار العمانية في السبعينيات من القرن الماضي، إلى جمالية فتيات «صبيا»، و مرجان البحر الأحمر. و تتعالى درامية النص حين تشير إلى قوى الظلام التي أتت إليها لا لتشاركها في حمل دلالات الإرث، و لكن لتجردها من ذلك السيف البهي الذي خبأته في أعماق القلب والضمير!
«أعادوا تفتيش البيت
أعادوا تفتيشي ....
نزعوا ملابسي ... لكنهم لم يستطيعوا نزع الريش
النامي على الحمام القلق بصدري» ( ص99 – الأعمال الكاملة)
شعرية هذا النص لاتقف أمام جنون المخيلة وسردياتها الملحمية، و لكنها ستكون تحققاً واقعياً – على المستوى الشخصي – لشكلٍ من أشكال «التناص المقلوب»، حيث ستكون وقائع حياة الشاعرة اللاحقة لزمن كتابة القصيدة ونشرها، متناصة تماماً مع ما حفلت به تلك القصيدة، من رؤية تكاد أن تكون «كفكاوية»، وتنبؤات حدثت في الواقع خلال ما جابهته الشاعرة من عنف المؤسسات!!
و لتأكيد هذا البعد نقرأ بعض ما دونته في كتابتها عن التجربة العريضة لجدلها و تعارضاتها مع المؤسسات الاجتماعية والثقافية و السياسية المتعددة، في تفاصيل التحقيق الأمني معها: «ما هي هوايتك؟
و حيث أجبت بأن هوايتي هي الطبخ، استشاط غضباً، وقال والزبد يتطاير من فمه: هل تستهزئين بنا؟
.... وحين قال بصوت نافد الصبر: إذا كانت هوايتك هي الطبخ، فماذا عساها أن تكون الكتابة بالنسبة لك؟
وقتها احتديت بدون أن أريد، و قلت له لا شك أنك يا سيدي تخلط بين الهواية و الهوية. الكتابة بالنسبة لي «حياتي» و ليست هوايتي، و إلا لما طلبتني لأمثل هنا، و لما كنا في هذا الموقف» (ص 44 – مقدمة الأعمال الكاملة)
و تمضي الرؤية الشعرية في هذا النص بما يومئ إليه من حدس الشاعرة حيال قسوة المناخ و عواء الرياح و الصحراء و المدن،
والقمع في التحقيق، كنبؤة تخييلية تحققت في الواقع، حين حدثت « مجزرة الحداثة» في عام صدور كتاب الحداثة في ميزان الإسلام سنة 1988م، والسنوات اللاحقة لها، المعبرة عن أزمنة القحط و الظلام واستشراس « الصحوة» المتماهية مع كافة المؤسسات، لتنال الشاعرة نصيبها من مجد المعاناة و التضحية، حيث تم تحويلها من محاضرة في الجامعة إلى كاتبة في قسم الإرشيف بنفس الجامعة!
ترى لماذا تم اختيار هذه الوظيفة بالذات؟
يمكننا أن نقف على عشرات التحليلات، ومنها الإذلال والانتقام من قامتها الشعرية والكتابية والوطنية، ولكنني أرى أن أهم تلك الأسباب يكمن في رمزية هذه الوظيفة!
رمزية الوظيفة تشبه الحكم على الشخص بالسجن مع الأشغال الشاقة! لكي تقرأ مسيرة ودرامية ما يُكتب عنها، وما يصدر ضدها من قرارات، ثم تقوم كموظفة بأداء أمانة المهمة، وحفظ تلك المخاطبات في ملفاتها المحددة!
وفي سياق هذا البعد الدرامي في مسيرة الشاعرة، التفت إلى مرحلة تألق انشغالات الحركة النقدية الأدبية الحداثية بالاحتفاء بإبداعاتنا الشعرية في المملكة، منذ منتصف الثمانينيات الماضية وما بعدها، لأرى بأنه و بالرغم من بروز اسمها شاعرةً وكاتبةً
ومثقفةً طليعية آنذاك، إلا أن النقاد قد أغفلوا قراءة إبداعها الشعري، خوفاً من حرائق كبريت حبرها، بذريعة أنها تكتب قصيدة النثر، و أنه لاجمهور لها !! كما أنها لم تحصل على جائزة الدولة التقديرية عن مجموعات أعمالها الشعرية المطبوعة في مجلد ضخم، مثلما حصل عليها بعض الأدباء، أما القائمون على جائزة الثبيتي التي يقدمها نادي الطائف الأدبي، وحينما أرادوا الانتصار لشعراء قصيدة النثر في المملكة، تجاهلوا منجزها وريادتها ورمزية حضورها البهي ولم يمنحوها الجائزة!!
و هكذا تفتح قصيدة الإرث أبوابها على ما سوف تعانيه الشاعرة من تمظهرات القمع و الإقصاء من مؤسسات كثيرة، لكنها ، مثل نصها، بقيا كنخلةً باسقةً في هجير الوقت!
«نشيد بنات المكلا»
تمتد شبكة العلاقات بين هذه النصوص الثلاثة التي اخترنا الوقوف عليها، لقراءة ملامح التناص اللغوي و الدلالي فيما بينها، من الذات إلى الرحم الحاضن إلى الأمة، ويصبح السيف في الميراث رؤية وموقفاً وضميراً، من فاتحة الإرث، إلى عاملة الرحى،
وإلى بنات المكلا.
«كنتُ رهيفة كالحدس
كحد السيف في كتب التاريخ ، أو في الذاكرة كنتُ
و كنتُ جناحاً مقصوصاً
وجناحاً تقصفه الطائرات» (إلى عاملة الرحى - ص 116- الأعمال الشعرية)
و هنا ستستبدل العنقاء جناحيها المنقصفين في قصيدة «عاملة الرحى»، بسيف اللغة، أنينا و تضامناً و انتصاراً للموقف المتبدّي من خلال رمزية «بهية المصرية» في نص «بنات المكلا».
شجن الأغنية، يفتح أبواب هذه القصيدة على مرجعيات التراث الشعبي، والغناء، وحمولات الذاكرة وعبق الأمكنة، و مفاعيل اللحظة التاريخية/ بما تحمله الكلمات من دلالات عميقة (الصعيد، مصر، بهية / السلام القاتل) !
عتبة عنوان القصيدة «نشيد بنات المكلا إلى عرائس النيل» و عتبة التقديم الذي يشير إلى حادثة اغتيال شابة مصرية في الصعيد أثناء ترشحها لخوض معركة الانتخابات، لا يشيران إلى اسمها مباشرة و إنما يبقيان علامة مفتوحة تحمل معنى المرأة الضحية، منذ قرابين مصر لنيلها بالعذارى، حتى مقتل تلك الشابة، إلى مرحلة مقتل مصر في معاهدة الصلح. لذلك يستعير النص لغة التجسيد في صورة المنحوتات الرمزية التي تعبر في حضورها الفيزيائي والرمزي عن «سيرة المرأة» المنتمية للمكان والحلم والخصب
والولادة، ولكن موازين الأعراف و المواضعات و الثقافات تختل لتقف ضد كفتها في الواقع اليومي، لتأتي القصيدة لتعديل تلك الموازين الظالمة، خين يغدو «الرفض و الإدانة» بؤرة للحدث والحديث.
«لأنها أمرأة من لحمٍ و دم
لأنها ذاقت ضيق و اتساع الرحم
لأنها أمرأة أرادت أن تخرج و لو قليلاً
من عصمة الطفيلي و المُصالِح و المُلتزِم
حكم عليها حلفاء الهكسوس
بالسخرة حتى الموت
لإعادة ترميم وجه فرعون» (ص 141 – الأعمال الكاملة)
وخلال عملية نحت تمثال أنثى القصيدة، يتم بنا ء هيكله من المشهدي في التكوين (امرأة من لحم و دم\ تعرف الحمل والولادة، إلى قبلة بهية و شفاهها) ومن امتزاج المشهدي برموز وشواهد تاريخية، توسع من فضاء الرؤية و الدلالات عبر عمليتي الاسترجاع والانزياح. استرجاع ذاكرة الأسماء في رمزيتها البعيدة، و انزياحها أيضا عن تلك الذاكرة، فلا تكون أنثى النص المنحوتة فاتنة كامرأة العزيز أو مثل نفرتيتي ، و إنما تكتمل فتنتها من خلال تشكيلها الفني ك «بهيّة» المصرية. كما أن «الهكسوس» لا يعودون غزاة أريحا في التاريخ و إنما يصبحون وجهاً للاحتلال المعاصر، و لا يبقى وجه إيزيس ملكةً و إلهةً لمصر الفرعونية، و إنما يغدو وجهاً للحكام الذين يرون ذواتهم آلهة جديدة!
و ضمن عملية التخليق الفني للنص، يبني السياق الشعري مساراته على أبعاد سردية تغتني بالإحالات و المرجعيات الكثيرة من خلال تعدد زوايا التقاط صور الملحمية و تبادل الضمائر مواقعها فيها، كما تغتني جمالية صمود المرأة، بمحاور خياراتها الترميزية في الفلكلور و التاريخ، فيغدو نشيد بنات المكلا، رمزاً لبنات العرب/ بنات الجزيرة العربية، حفيدات «زرقاء اليمامة» في وقفاتهن مع «بهيّة» المصرية. إنه نشيد الجميلات العاشقات للحياة الذي أنبثّ في كلمات الشاعر الحضرمي، حسين المحضار «يا بنات المكلا \ يا دوا كل علّة»، لتتردد ألحانه من اليمن إلى السعودية إلى سوريا إلى لبنان، إلى الأردن، تعبيراً عن المشترك الفلكلوري و الوجدان الشعبي المتجذر في ضمير أبناء تلك الأمكنة المتلاحمة مع أرجاء الوطن العربي.
ولتكتب نشيدها الخاص للأغنية فإنها تقول:
«لبهية شفاه تغري
لكن قبلتها مُرّة
مصر يمّة يا بهيّة
هذي المرأة تعود الليلة إلى صدرك
تعود مجدليّة
ليست نفرتيتي
ليست امرأة العزيز
ليست إيزيس
«بهيّة» الليلة عروسة». ( ص 144 – الأعمال الشعرية)
و لكل هذا، نقف على مقدرة الشاعرة على تحويل لحظة درامية مقتل الشابة المصرية في «الأقصر» عام 1984م، إلى منحوتة شعرية «لعروسة» تخرج من النيل وتعود إلى قلب «بهيّة» في النيل، منقوشة في ديوان الشعر ومحفورة كأيقونة في وجدان الضمير، عبر وسيط لغتها المقطرة و الجارحة.. لغة الجياد النافرة والسيول الجارفة، والحقول الخصيبة بالطمي والقمح والولادة ومقاومة القهروحالات الاستسلام !