د.عبد الرحمن الحبيب
فور إعلان فوز المغني وكاتب الأغاني الأمريكي بوب ديلان بجائزة نوبل للأدب، ظهرت تعليقات متنوعة سريعة الأحكام من المثقفين الذين ثارت شهيتهم للنقد الجاهز المعلب.. أحدهم قال لي: كنا بلينا بجائزة مسيسة والآن يضاف إليها انحدارها للمستوى الاستهلاكي الشعبوي!
إذا استثنيت المثقفين العرب الذي علقوا على الخبر حياديا، فيمكنني تقسيم أصحاب الانطباع الأولي من المثقفين العرب الممتعضين من حصول مغني شعبي أمريكي على أكبر جائزة عالمية للأدب إلى ثلاثة انطباعات. الأول رأى أنها مسايرة للعولمة الرأسمالية حيث تلاحق الجائزة الإعلانات التجارية، أو على الأقل تساير الحس الشعبوي الذي ساد مع تمدد وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة. الثاني نخبوي يرى أن الأعمال الأدبية الرفيعة (خاصة الشعر) هي نخبوية بالضرورة يستعصي فهمها على العوام، وحصول ديلان عليها هو انحدار في مستوى الجائزة. الثالث نمطي مسيس يرى أن فوز ديلان استمرار لما تقوم به الجائزة من دعاية للتفوق الغربي ومنحازة حتماً للهيمنة الأمريكية..
كلها أحكام مسبقة ستتغير وربما تنقلب رأسا على عقب عند التعرف على تاريخ هذا الفنان لمن لا يعرفونه، فأعمال ديلان تمثل ثقافة الرفض للسياسة الأمريكية على مدى ستة عقود، وهو إضافة لكونه مغن وملحن وكاتب أغان غير تقليدي، فهو أديب وفنان تشكيلي.. وإذا افترضنا أن الجائزة كسرت شيئاً من تقاليدها العريقة فهي كسرت قالباً تقليدياً بمنح الجائزة لفنان مضاد للعولمة الرأسمالية وليس متماه معها. قلتُ «إذا افترضنا» لأن الجائزة سبق منحها عام 2005 للكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر، الذي كان معروفاً بمناهضته القوية لغزو العراق. وكذلك منحت للروائية البريطانية دوريس ليسينغ وهي مناهضة للرأسمالية الغربية وذات فكر يساري.. هذا لا ينفي تماماً انحياز جائزة نوبل للأدب لكنه ينفي أن انحيازها ممنهج، فضلاً عن أن جائزة نوبل للسلام سياسية ومن الطبيعي أن يعتريها الانحياز..
أول ألبوم صدر لديلان كان عام 1962 حين كان يافعاً عندما انتقل من بلدته الصغيرة إلى نيويورك. فمنذ البداية سحر هذا الشاب الخجول بصوته الرخيم المسكون بنبرة حزن موجعة وأغانيه التي تستلهم من شجون الحياة اليومية عبر نصوص مكثفة تحكي انكسارات وطموحات المواطن الأمريكي العادي وقريبة من حياة المهمشين والمضطهدين والكادحين. إذن، لا يمكن أن يكون حصول ديلان على الجائزة مسيسة لصالح تيار العولمة الرأسمالية، وهو مناهض لسياقات تلك الحضارة، مما أربك أصحاب الأحكام المسبقة سواء أصحاب نظرية تسييس الجائزة، أو النخبويون الذي يرون في الجائزة حقاً محصورا للنخبة، فديلان جمع بين النخبة والشعبية..
لو أخذنا أشهر أغانيه «Blowin› In The Wind» (في مهب الريح) التي ظهرت عام 1963 أثناء التجهيزات لحرب فيتنام، فهي أصبحت لاحقا أكثر أغنية احتجاجية يتم ترديدها من حركات معارضة الحرب. المفارقة أن ديلان نفسه لا يعتبرها احتجاجاً سياسياً، بينما يعتبرها أغلب النقاد أشهر وأهم أغنية احتجاجية على الإطلاق، إضافة لقيمتها في الحقوق المدنية.. سأترجمها في نهاية المقال ليحكم القارئ عليها، رغم أن ترجمة الشعر تشوهه..
ورغم أن ديلان يعد شخصية موسيقية مؤثرة في الثقافة الشعبية فإن أغانيه أضافت قيمة احتجاجية لصالح الطبقة العاملة والأقليات المضطهدة في أمريكا في الستينات، ورُددت بعض أغانيه كنشيد لحركة الحقوق المدنية للأمريكان ذوي الأصل الأفريقي والحركة المناهضة لحرب فيتنام.. وكانت لكلمات ديلان آثار متنوعة من التأثيرات السياسية والاجتماعية والفلسفية والأدبية لحقبة الستينات والسبعينات؛ فضلا عن أنها أحدثت تطويرا للأنواع الموسيقية مثل موسيقى الريف والروك، كما أحدثت تغييراً في موسيقى البوب..
أما اللجنة المقررة لمنح ديلان جائزة نوبل فقد بررت ذلك كما جاء في حيثياتها: «لأنه خلق تعابير شعرية جديدة ضمن تقاليد الغناء الأمريكية». وقالت سارة دانيوس، سكرتيرة مؤسسة نوبل، إن اللجنة اختارت ديلان لأنه «شاعر عظيم ضمن التقليد الشعري للناطقين بالإنجليزية».
أترككم الآن مع غنائيته «في مهب الريح»:
كم من الدروب على الرجل أن يسلكها
قبل أن ندعوه رجلاً؟
كم من البحار على حمامة الشراع الأبيض أن تبحرها
قبل أن تنام على الرمال؟
كم من المرات على قذائف المدافع أن تطلق
قبل أن تُحظر إلى الأبد؟
الجواب، يا صاحبي، نفخ في مهب الريح
الجواب في مهب الريح.
نعم، كم من السنين يمكن للجبل البقاء
قبل أن يتم غسله إلى البحر؟
كم من السنين يمكن لبعض الناس البقاء
قبل السماح لهم بالحرية؟
كم من المرات يمكن للرجل أن يدير رأسه
مدعياً أنه لا ترى؟
نعم، كم من المرات يجب على الرجل النظر عالياً
قبل أن يتمكن من رؤية السماء؟
كم من الآذان يجب أن تكون لرجل واحد
قبل أن يتمكن من سماع الناس تبكي؟
كم من الوفيات سوف يستغرق حتى يعرف
أن عدداً ضخماً من الناس قد ماتوا؟
الجواب، يا صاحبي، نفخ في مهب الريح
الجواب في مهب الريح.