د. حسن بن فهد الهويمل
حين يستقر في ذهني أنني جزء من هذا العالم في: نوعي، وَوَعْيِي، ومُعْتقدي. وأنني لست الكلَّ في الكلِّ، تكون ممارستي مشاركةً، لا استبدادًا. ورؤيتي لبنة في قصر الحضارة الإنسانية، ومتممة لقيمها.
[مكتبتي] هي التي علمتني أنني ومْضَةُ في السياق الحضاري، ولست شمسه، ولا قمره في التوهج، والإنارة. هذا التصور يُهيئ لي أسلوبًا حضاريًا في التعامل مع الغير.
لا أحد يحتكر الحقيقة، إلا قطعيات الوحي، وقليلٌ مَّاهي. ولا أحد يكتشف الحقيقة. كل العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والمبدعين: الملهمين، والعاملين، يلاحقون أشباحها. وهم معها كمن يحاول سبق ظِلَّه.
إنها الحياة لا يرتوي ظمؤها إلاّ من صراع الأفكار، والصراع من أجل البقاء. ومن تصور أنه بلغ النهاية، واكتشف الغاية، تبخّر في جوها، واندثر.
الحياة كـ [ليلى العامرية] كل شاعر يدعي وصلها. ولكنها لا تقر لهم بِذَاكا.
عندما تعرف نفسك، تعرف قضيتك، وتضبط إيقاعك، وتوسع قاعدة انتشارك، وتُنَمِّي أتباعك. وما أقل العارفين لأنفسهم.
ولأهمية التعرف على الذات، ندب إليها لذكر الحكيم:- وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ والإبصار هنا عمل عقلي، لا رؤية بصرية.
هذا المدخل أردت منه تثبيتًا لأفئدة لم تذعن لقبول الآخر.
وكيف يتأتى الخوف من احتمال تكاليف الجدال، والجهاد بالقول، والله يقول لرسوله:- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ويقول:- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ويقول:- أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وفي الوقت نفسه يأمر رسوله:- وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا . أي جادلهم، وحاججهم بـ [القرآن].
خلاصة القول:
أنّ قدر الله ماض. فمن أراد الله له أن يموت على الكفر، مات عليه، وإن جاهدته بالقول، أو بالفعل إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا .
سنّة الكون الماضية، تقوم على الاختلاف {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وفي هذا إيجاز حذف. إذ التقدير كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وقيل هي قراءة لـ [ابن عباس]. وقيل: كانوا أُمة واحدة على الكفر.
المهم أنّ الأفكار الجديدة، وإن كانت سليمة، ليست وسيلة للاتفاق:- وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ والبينة:- [رسول] و[صحف]. والرسول مبشِّر، ومنذر، ومبلغ. وليس مُكْرِهًا، ولا مُسَيْطِرًا، وليس له من الأمر شيء.
ولكل مقتنع بأنه على الحق أن يجالد، ويجاهد، وأن يبلغ صوته مشارق الأرض، ومغاربها. وعليه أن يراجع نفسه، وأن يُقَوِّم عمله، وأن يمحص دوره في بناء الحضارة الإنسانية.
مَنْ خالفنا، وأسهم في بناء الحضارة الإنسانية قَبِلْنا منه أحسن قوله، وأتم عمله. ومن خَالفَنا، أبَنَّا له وجه الصواب، فإن أذعن فأخونا في الدين. وإن أصر، ولم يقاتلنا، ولم يخرجنا من ديارنا، أمْكَنَتْ معايشته. وإن نكث العهد، وقاتلنا في الدين، وظاهر علينا، ركبنا له أطراف الأسنة مضطرين:-
[إذَا لَمْ تَكُنْ إلاَّ الأسِنَّةُ مَرْكَبًا
فَمَا حِيلَةُ المُضْطَرِّ إلَّا رُكُوبُها]
الخبير المجرب يقطع بأنّ الحضارات مُؤَثِّرٌ، ومُتَأَثِّرٌ، وأنها في النهاية [تكاملية]، ومن ثم تَخِفُّ عنده الأثرة، وتخفت نبرةُ الإقصاء، والمصادرة.
إنّ علينا في خضم الصراعات، وهيمنة [المنظمات]، و[الهيئات]، والدخول في عهودها، ومواثيقها الحتمية أن نستبق القواسم المشتركة، وأن نُشْعِر الآخر بأنّ التعايش، والتعاذر ممكنان. وأنهما خيار العصر.
وليس هناك أي محذور من طرح مشروعنا، استجابة لحديث:- [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آية] وتحقيقًا لمهمة المسلم في الحياة المتمثلة بـ [عبادة الخالق]، و[عمارة الكون] و[هداية البشرية].
والتعايش لا يعني الانسلاخ من القيم، ولا التخلي عن المقاصد. فالإسلام رسالة إلى الناس كافة، والرسول جاء ليتم مكارم الأخلاق، وهو بما يقدمه من أمر، ونهي، وإقرار إنما يكمل الدين، ويختم التشريع، ويطرح المسمّى الأشمل، والأعم [الإسلام]. فلا طائفية، ولا مذهبية متعصبة، أو محتكرة للحقيقة. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .
وعلى حملة العلم الشرعي أن يعلموا أنهم نقلةٌ، مبلغون، لا يجوز لأحد منهم تحميل غيره فهمه الخاص، واستنتاجه الذاتي. بل عليه إبلاغ الرسالة المحصورة بين دفتي: [الكتاب] و[الحديث]. والعلماء كافة شركاء في النص الرديف. وتفاضلهم في مدى قربه من النص الأصلي.
ولأنّ العَالِمَ وسيط ، فإنّ عليه الدقة في الفهم، وعرض المفهوم دون فرضه، وإذا خُولِف في الفهم، فإنّ عليه محاجة المفهوم، لا مخاصمة الفاهم.
فالمتلقي في عصر العلم، والعقل يرقب المشهد، ويحدد الانطباع، ويُحَكِّم العقل، والدلالة، ومعقولية المقاصد.
وعلى المتصدر أن يجنح إلى اللين، والتطمين، والاستمالة، والإقناع، والاحتواء: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ .
فِقْهُنا بشقية:- [الأكبر] و[الأصغر] قادر بمحتواه، وبمشروعيته، ومعقوليته على ترويض الجماح، واستلال الارتياب.
يتبع...