د.ثريا العريض
النظر إلى البعيد غير المتضح ليس قدرة تتوفر عند الجميع. وهي قدرة لا تعتمد على الحدس بقدر ما تعتمد على التفرس والتمعن في ما يتوفر من التفاصيل، والتكهن باحتمالات وجهة التغيير سلباً وإيجاباً، للوصول إلى تكهن باحتمالية تفسير معقول منطقياً وقرارات فعل مناسب للمستجد. فالأهم من قدرة الرؤية في حد ذاتها قدرة الاستفادة منها والاستعداد بقرارات عمل مناسبة لكل سيناريو .. في السراء أو الضراء.
لا فائدة من قدرة الرؤية إذا لم تواكبها خطط عمل مناسبة تنفذ بروح الفريق بذمة صادقة ويشرف عليها بحزم ويحاسب المسؤول عن النتائج .
الشاهد في التاريخ أنّ الناجحين في الإنجاز والناجين من الظروف السلبية، هم من يتمتعون بقدرة الرؤية واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب للاستفادة القصوى.
و لو أنّ قوم زرقاء أخذوا بجدية رؤيتها بأنّ : الشجر يتحرك وتحذيرها لهم بالاستعداد، ولم يقضوا ليلتهم يسهرون منتشين بدل الحراسة، لما فاجأهم أعداؤهم المستترين بفروع الشجر متقدمين حتى باغتوهم بلا استعداد للدفاع، ولنجت القبيلة من مصير محزن.
هي حكمة عربية بدوية يجب أن لا نهمش أهمية استيعابها إلى مجرد أسطورة من تراثنا والسوالف والنوادر.
دائماً فقط قلة عقلانية تفكر بوجهة نظر تحدق في الأبعد مثل «زرقاء». بينما تمارس الغالبية التمتع بكل ما تعطيها إيجابيات أي وضع، متعامية عن السلبيات المستترة المتضمنة. وإن ذكّرت الأقلية المتخصصة الغالبية المستفيدة بما قد ينجم من خسارة عامة مستقبلاً، قلّما يصغى إلى صوت المحذر المتعقل أو يؤخذ بمرئياته. بل تمارس كل آثام تضمن الاستفادة القصوى من المتاح المشترك، مربحة فئة على حساب فئة. ولذلك بعد وفرة ارتفاع الدخل الريعي جاءت حماقات أعراف الطفرة، وسطحية التخطيط وإساءة إدارة وتنفيذ المشروعات.
رحم الله كل من ذكّر بسوءات الاتكالية والأبوية التدليلية وطالب بنضج وذمة الأفراد، مسؤولين وموظفين في القطاع العام، وأصحاب أعمال في القطاع الخاص. رحم الله من ذكّر أنّ الدولة الأبوية لن تستطيع الاستمرار في مد مظلتها لتغطي كل المواطنين، إن استمر ترسخ عرف اعتياد الاستقدام والتستر والواسطة واستغلال الدعم والفساد وضعف التعليم والتدريب.
خبراء الاقتصاد والتنمية ذكّرونا أننا أهل صحراء تنعم بمردود موارد النفط إلى حين. وذكّرونا بأنّ مواردنا المائية كموارد آبار النفط غير متجددة. وذكّرونا بضرورة تدريب أبنائنا، وذكّرونا بأنّ للسوق المحلية والعالمية فرضياتها وتقلُّباتها. فتهاونّا وربما اعتبرنا بعضهم غبياً لا يعرف من أين تؤكل الكتف. التهاون في أخذ مرئياتهم المخلصة بالاحترام الواجب والمستحق.. هو ما أنتج الوضع الذي نشتكي منه الآن!
الحمد لله ونحن وغيرنا من دول المنطقة والعالم نواجه ضغوطاً اقتصادية وحروباً متصاعدة وغموضاً في توجهات التحالفات الدولية والعلاقات الإقليمية والثنائية، ما زالت هناك قلة مميزة ترى بعيني زرقاء، وقلة مخلصة تنصح بما ينقذ السفينة ولو سبب ضيقاً وعدم راحة لركابها.
السؤال الآن هل نعي دورنا أم نستمر في المطالبة بإرث بدّده بعضنا نحن المواطنون والمسؤولون بأنانيتهم وقصور رؤيتهم ومرونة ذممهم ؟
هل ننضج وننترك تبرئة الذات بلوم «من كان السبب» لنسأل كيف نتعاون كفريق متكامل؟
وأقول أعان الله كل من لا زال يحاول تعديل الوجهة وتصحيح ما وصلنا إليه. وأول خطوة في التعديل أن نتقبّل أنها لم تعد رحلة ترفيهية وعلينا أن نمسك معاً بالمجاذيف ونبذل جهداً للخروج بها من اللجة.
الحمد لله، برؤية «زرقاء» مازال في الزمن فسحة لإنقاذ السفينة .. وفسحة للتوضيح.