محمد سليمان العنقري
يبدو أن التصريحات التي أطلقها الضيوف من أصحاب المعالي في حلقة برنامج الثامنة الشهيرة تحتاج إلى الكثير من المقالات للوقوف عندها وتبيان مدلولاتها ومن بينها ما جاء بنقاش مقدم البرنامج الإعلامي داود الشريان مع معالي نائب وزير الاقتصاد الاستاذ محمد التويجري حول بعض أوجه الإنفاق الحكومي السابقة، حيث ذكر بأنه شابه الهدر ببعض جوانبه ومن بينها بناء الجامعات بحسب ما يمكن فهمه من سياق حديثهم حيث أكَّد ذلك تكرار مقدم البرنامج لعبارة أن عشر جامعات مثلاً كانت تكفي أي بدلاً من قرابة ثلاثين جامعة حاليًا.
الحقيقة أن مثل هذا التصور يعد كارثيًا إذا قيس فقط بحجم الأموال التي انفقت لبنائها أو لتشغيلها! فالعائد الاقتصادي من هذه الصروح العلمية لا يمكن اختزاله بعائد مالي مباشر فهل يُعتقد مثلاً أن عدم بناء هذه الجامعات سيوفر مليارات يفضل أن تحتفظ بها الحكومة على حساب انتشار العلم والتنمية المستدامة؟ بالرغم من أن الواقع هو أن القناعة الحكومية بالتأكيد هي في صف بناء الصروح التعليمية وانتشارها بكل المناطق والدليل أن ما أنجز في هذا السياق كان ضخمًا من حيث المرحلة الزمنية القصيرة التي نفذت بها تلك الجامعات كأحد أسس خطط التنمية البشرية كون الإنسان هو الثروة الحقيقة لأي مجتمع يبحث عن التَّميز والتطور.
وإذا كان عدد الجامعات الحكومية قد قارب الثلاثين مع بعض الجامعات الأهلية التي لا تصل إلى عشر جامعات بخلاف الكليات الخاصة إلا أن ذلك لا يعد إلا بداية في سبيل التطور المنشود لمجتمع يقوم نشاطه الاقتصادي على مهارة أفراد المجتمع بعد تأهيلهم وتعليمهم فبعض الدول كتركيا وصل العدد إلى 180 جامعة وكلية وتطمح إلى أن تصل إلى 500 جامعة عام 2023 م ويقاس ذلك على دول عديدة بالمنطقة تتفاخر بعدد جامعاتها وانتشار التعليم العالي فيها، فهذا النوع من الاستثمار لا يمكن أن يخسر لأنه بناء إنسان يستطيع أن يقدم الكثير لمجتمعه خصوصًا إذا توافرت البيئة المناسبة لاحتضان الكفاءات ودعم الإبداع فالتنافسية الحقيقية بين الدول باتت على العقول وفتح فرص العمل والإبداع لها من خلال الدعم التنظيمي والمالي.
أما الأبعاد الإيجابية الاقتصادية المباشرة فيكفي أن هذه الجامعات تحرك التنمية وتعزز النشاط الاقتصادي بالمناطق ومدنها خصوصًا التي كانت تفتقر لجامعات ويضطر أبناؤها، إما للانتقال للمدن الكبرى التي كانت تستحوذ على الجامعات أو السفر لدول مجاورة فأبناء المناطق الشمالية أنعشوا جامعات دول مجاورة كالأردن نظرًا لقربها لهم ولكن الخاسر هو الوطن حيث تتكفل أسرهم بالإنفاق عليهم وتدعم اقتصاديات تلك الدول بخلاف بعدهم عن أسرهم وأيضًا يعد ذلك خسارة للاقتصاد المحلي لأن هذه الأموال لو انفقت داخليًا لكان مردودها أعلى بالناتج المحلي بخلاف أن الجامعات تنشط الحركة التجارية بالمدن بقطاعات عديدة كالعقار والتجزئة والخدمات فكيف يمكن لنا أن نوزع التنمية إذا لم تبن مشروعات متعددة ومن أهمها التعليمية كالجامعات.
كما أن التحول بالاقتصاد الوطني ليكون منتجًا لأغلب ما يستهلك بدلاً من الاستيراد الضخم يتطلب توسعًا في التعليم العالي وبكل المناطق حتى لا نخسر كوادر قد تحرم من فرص التعليم بسبب محدودية المقاعد الجامعية وهو ما كان قائمًا قبل حوالي عقدين فكيف تتطور المناطق الصغيرة إذا لم يتعلم أبناؤها ويستثمروا طاقاتهم لخدمة الوطن ومناطقهم وكيف نقضي على البطالة ونحول التنمية لمستدامة بجذب الاستثمارات إذا لم ينتشر التعليم والتأهيل ولا يمكن قياس حجم منطقة أو مدينة رئيسة فيها بعدد سكانها للقول بأنها تستحق جامعة فكثير من جامعات دول متقدمة موجودة بمدن صغيرة وباتت مشهورة عالميًا بمستواها وعراقتها العلمية فالمعيار هو بدعم كل الجامعات الوطنية لتكون منارات علمية ومراكز بحثية أي أنها تستحق المزيد من الإنفاق حتى يتطور اقتصادنا ونتنوع بإنتاجيته والتوسع بطاقته الاستيعابية بدلاً من الاستيراد الذي فاقت فاتورته بالمتوسط 600 مليار ريال سنويًا مع اعتماد هائل على العمالة الوافدة التي تحول أكثر من 140 مليار ريال سنويًا للخارج فكيف سنغير مثل هذه المعطيات دون تعليم وانتشار وتوسع بالإنفاق عليه خصوصًا العالي.
بات من أبجديات وبديهيات اقتصاديات القرن الحالي التنافس العلمي والتطور المتسارع بالمعرفة فلم تعد الإنتاجية تقاس فقط بمعايير الوظيفة أو الاختراعات التي تنجزها مراكز أبحاث أو شركات بل أصبح فردًا حصل على تعليم جيد يمكنه أن يبتكر منتجًا يبيعه بمليارات الدولارات كما نرى حاليًا بالعالم إِذ حصد مبتكر تطبيق التراسل (واتساب) 19 مليار دولار أمريكي ثمنًا له في صفقة لشركة فيسبوك التي هي فكرة من فرد وباتت شركة مدرجة بقيمة تفوق 381 مليار دولار أمريكي أي ما يعادل بناء مئات الجامعات فهل نقيس الإنفاق على المباني التعليمية بحجم تكلفتها أم بما نطمح له من عائد اقتصادي ضخم جدًا من الخريجين الذين يحتاجون للتفكير بوسائل دعم متعددة لهم التي أسستها الدولة كهيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة والعديد من المبادرات والمرافق التي نأمل أن تسهم بتحويل أفكار الشباب لاختراعات ترفد الاقتصاد المحلي بعشرات المليارات وتوفر فرص عمل ضخمة فتكون بذلك الجامعات هي رأس الحربة وقائد قاطرة النمو الاقتصادي المنشود الذي تطمح له رؤية 2030.