عبدالعزيز السماري
أعترف أنني أصبت بصدمة بعد حلقة الثامنة الشهيرة، وبالتحديد من اعتبار الاستثمار في التعليم العالي والجامعات والبحث العلمي نوعاً من الرفاهية وهدفاً رئيسياً لإستراتيجية التقشف في الرؤية الوطنية القادمة، ووجدت نفسي في حالة لا أستطيع تجاوزها، ولهذا السبب ليسمح لي القارئ أن أتطرق إليها مرة أخرى، وذلك من باب اهتمامي بمستقبل التعليم العالي وأمنه الاجتماعي والاقتصادي.
أثبتت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية في دول العالم المتقدم أن خريجي الجامعات لديهم فرص أكبر للنجاح وللكسب المادي من حملة الدبلوم أو الثانوي، لدرجة أن بعض الدول تفرض على الرياضيين الحصول على درجة تعليم جامعية قبل الدخول في دوري المحترفين، وسبق أن أطلق الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما شعار إن التعليم العالي ليس ترفا، لأنه حسب وصفه ضرورة اقتصادية، ويجب أن تكون كل أسرة قادرة على تكاليفه.
من أجل استيعاب خطورة تلك الرؤية السلبية عن التعليم الجامعي والبحث العلمي، لنقرأ ما تضمنته الرؤية الإستراتيجية لبلد صغير مثل أستونيا، والتي لا يمكن أن تقارن ببلاد مترامية الأطراف مثل المملكة، وتنص على التالي «يجب ربط التعليم العالي مع متطلبات سوق العمل، وربط التعليم العالي مع البحوث وأنشطة التطوير ونظام الابتكار، ضمان جودة التعليم العالي، وتمويل التعليم العالي»..
في العقد الماضي عملت دولة لا يمكن أن تراها بسهولة على الخريطة، وهي مالطا على وضع خطة للتوسع الكبير في قطاع التعليم العالي، وأدى إلى ارتفاع في طلبة الجامعات من 6362 إلى 14718 في عام 2012، وكانت النتيجة زيادة في التحصيل في التعليم العالي لأكثر من 9.3%، ومع ذلك، وبالرغم من هذه التطورات المشجعة، تشتكي حكومة مالطا من أن التقدم كان أقل بكثير من التي سجلت في دول الاتحاد الأوروبي.، حيث بلغ المتوسط في التحصيل العلمي في الاتحاد الأوروبي حوالي 36.8% من الذين تتراوح أعمارهم بين 30-34 سنة ..
كوريا الجنوبية والتي تعتبر مثلنا الأعلى في التنمية، حققت معدلات عالية في الاقتصاد بسبب الاستثمار في التعليم، وتعيش كوريا في حالة أقرب لحمى التعليم حيث شهدت القطاعات الكورية ارتفاعا هائلا في التوسع على مدى العقود الخمسة الماضية، واليوم هناك ما يقارب 376 مؤسسة رسمية للتعليم العالي، وتدعم 3.7 مليون من الطلاب و 60.000 من أعضاء هيئات التدريس..
ومع ذلك لازالت كوريا في ابتعاث الطلبة إلى الولايات المتحدة في مقدمة دول العالم، وذلك لأن الحكومة الكورية أدركت مبكراً أن التحول العالمي هو نحو احتياجات المجتمع القائم على المعرفة، ويجب دعم مؤسسات التعليم من أجل إنتاج الموارد البشرية ذات الكفاءات العالية والقادرة على المنافسة.
لهذه الأسباب كانت حلقة الثامنة صدمة لي شخصياً، وربما للكثير، وذلك بتبنيها دعوة السير عكس اتجاه عقارب الساعة في العالم، وكم أرجو أن تكون تلك الحلقة في النسيان، وأن نعيد قراءتنا للمشهد التعليمي، وقبل ذلك أن نتوقف عن تخريج أنصاف المتعلمين وأنصاف المتدربين، وأن ندرك قبل الغد أن المجتمع ووعيه تجاوز كثيراً بعض الإعلاميين وربما بعض الوزراء، وأن المرحلة القادمة تتطلب عقولاً أكثر قدرة على الابتكار ودفع عجلة التفاؤل نحو المستقبل المزدهر للوطن في جميع المجالات، والله ولي التوفيق.