زكية إبراهيم الحجي
من متناقضات المنطق البشري خلق الأعذار لتبرير الأخطاء.. وكلما زادت الأعذار تراجعت احتمالات الحقائق، وبين ليلة وضحاها يصبح صاحب المبررات ضحية وجلادًا. فليتنا كالأسماء، لا يغيرنا الزمان ولا الأحداث والأزمات. تُرى.. مَن منا لم يختبئ يومًا من ضيائه الداخلي؟.. مَن منا لم يقدم يومًا على التنصل من حالة تسكن نفسه، أو أن يتمثل مجبرًا صفة ليست من صفاته؟.. مَن منا يزعم أنه لم يحاول ولو مرة أن يستعير ذاته، يستعيرها إما من نفسه، وإما من غيره؟ فاستعارة من ذات الغير فارق واختلاف؛ فأن تستعير من جهدك الخاص تكون أقدر على تفسير ذاتك.. أما أن تستعير من غيرك أو حتى تسرق فأنت مضطر لتبرير ذلك.. ومطبات التبرير المتتالية تجرف وتحت جنح الظلام الداخلي إلى الخديعة الذاتية. وأسوأ أنواع الخديعة هو أن يخدع الإنسان نفسه. الإنسان مسؤول.. والمسؤولية أبرز سماته، شاءت الفلسفات المادية أم أبت.. إلا أن خصلة سلبية قد تحول في بعض الأحيان بينه وبين أدائه لمسؤولياته، ألا وهي خصلة التبرير، أو ما تسوله النفس الإمّارة بالسوء للفرار من مواجهة الحقيقة.. يستقبح الحقيقة، وكأنه متيقن تمام التيقن بأنه في منأى عن أن يكون خادعًا لنفسه بعرضه تبريرات قد تفتح أمامه أبواب الشكوك.. ولن يفلح الهروب من حقيقة لا يمكن أن تغطَّى بغربال، أو حتى تجاهلها.. فالهروب أو التنصل سيفضي إلى ملامة أو سلسلة من التهكم والسخرية أو الإبداع في نسج نكات وطرائف حول مختلق الأعذار لتبرير الأخطاء.. ولعل من طرائف ما يروى أن رجلاً قيل له إن الفساد قد انتشر في البلاد. فقال: سحابة صيف وسوف تنقشع عما قريب. فلما قيل له إن الفساد قد انتشر فعلاً، وإنه استحكم قال مبررًا عدم قدرته على محاربته: اتسع الخرق على الراقع. الحقيقة واحدة، سواء كان الأمر سحابة صيف تنقشع عما قريب، أو كان خرقًا اتسع على الراقع. البشر جميعًا معرضون للخطأ، وعزة النفس وكبرياء الذات للغالبية العظمى تأنف الاعتراف بالخطأ. والذات ماسة في جوف الإنسان، ويريد لها أن تبقى ناصعة براقة في عينيه وأعين الغير، وإن وجد ما يشوبها يصقلها بالأعذار والتبريرات وتبرير الخطأ بخطأ آخر، يقلل من قيمة الإنسان وقدره. والمثل يقول: عذر أقبح من ذنب.
ما أسهل على ضمير الإنسان أن يجد عذرًا يبرر به أي خطأ يقع فيه عن قصد أو غير قصد، وما أوسع باب التبريرات، عند فتحه لا يسلم من عبوره أحد، سواء كان سياسيًّا أو مسؤولاً.. مثقفًا أو ناقدًا.. وزيرًا أو موظفًا.. معلمًا أو طالبًا.. حتى الحروب لا تخلو من أعذار وتبريرات لها. ظاهرة لا تخرج عن إطار الخداع الملتصق بالمشاعر والأحاسيس المتمثلة في رؤية القبيح على أنه جميل.. والجميل على أنه قبيح.