رمضان جريدي العنزي
قال لي بصوت متهدج، بفعل حنجرته الواهنة، وجسده الذي يشبه الخيط، ودمعته الساقطة، أصبحت عاطلاً عن العمل، وحدي أقايض ضوء الخديعة، أنفق عمري في بازار خاسر، النسل خائب، بعد أن صار مثل تفاحة فاسدة، أو تجارة خائبة، ثمة قهر في داخلي، روحي لم تعد تبتهج للحقول والعصافير، الأحلام عندي فاترة، نوافذها مغلقة، كثيراً ما أضع رأسي بين يدي، وأمخر مجسات الرؤى، حالم اطلع على شباك الحدائق الوارفة، ما عاد المجاز عندي ارتقاء، ولا البلاغة سؤدد، أقص على نفسي نشيج من تأسي، وما تبقى على حائط الطفولة الماثلة، الفرح ليس لي، وحزني يتوزع بين جسد واهن، وذاكرة ناحلة، وشمائل تحمل عبق المصاهرة، أشم في جسدي رائحة الدماء، وطعن الحراب، وأنا الذي كنت أتوشح ليل الصحراء، وأناهض الرياح العاتية، والذئاب العاوية، من يستر وهني الآن، ويرفع قدري؟ كأخوة يوسف، يكيدون لي موتاً، وأكيد لهم عشقاً، كانت الصحراء يوماً لي، والتل والغدير، والحداء والصهيل، كان لي ما لم يكن للطير في أفق الرحيل، كانت الحياة لي، حلمي كان لا باب فيه، وصهيلي لا يستكين، الآن صرت مثل عطر ترهل من ثوب الحرير، ليس عندي سوى حزني، أقبع خلف الجدران المتهالكة، أحاول أن أسمع صوت الحياة فيها، كم أشعر بالحزن وهم يغادرون وحدتي، وأنا الذي رمقتهم بعيون متعبة، مضت أحلام فصولي، وجف تحت ثرى سنيني الماء، أيامي تمضي بلا اشتهاء، حالتي واحدة ماثلة من زمن الخيبات، الأسى تلبد في سماء عمري، ومضت فصوله تتوالد في محطاتي، صار مثل كفن يوخز أحلامي الواهمة، تقتطف سنين احتطامي في الوجد وغدوت مجنون أسري في أحقاب رؤاي، اعتكفت أنيني عند أسوار بيتي، كيمامة ترسل صوتها حزينة نادمة، صرت مثل الذي يبيع مواله للغادين في الطرقات الذاهبة، تمر عليّ الريح، والليل صار عندي صديقاً، لقد غادروني سقيماً، حتى نام بجانبي الألم، وتركوني للعتمة، وحيداً بداري، سأتلو عليك حزني، وأفتح جرحي، وأعوامي الثمانون المرة، التي تذبحني وخزاتها وطعناتها، آآآه .. كم لطمتني الآهات بين أسوارها، حتى صرت مثل قيس بين المضارب ينشد وجده، نهضت يوماً، توكأت على عودي الذي من قصب، حاولت أن أرمي وهني، لأعبر المسافات لكن الوهن أقعدني، ودلس علي فرحتي، أدرك أن القادم مزلاج نهاية لا مفر منه، وما تبقى عندي خبأته في مضخة القلب، وركنت قبل الأوان في لحد صمتي مع جيش ذكريات مرير، أن بيني وبين نفسي نصف حياة ونصف ممات، لا أحد يدرك الآخر،صرت كمن يضرب معوله في تربة رخوة عله يجوس مفازاته ويعبر، تهت في رمال حزني وأساي ووجدي، وعلى الرغم بأني موصوم بلدغات نسلي، ها أنا ألملم غبار كبريائي بهذا التوجع، كي لا تجف باكراً شيخوختي، في حضرتك يا صديقي أشيع أنفاس دموعي، أخبأ في صقيعها حلمي الصغير، علني أفيق من تباريحي الجريحة، ها أنذا أتنهد بفيض اعتناق، علني أجلو من روحي الحزينة بقايا شقاق، لا أخفي عليك أنا سابح في الأسى، بفعل الذي بعت لهم عمري وصحتي لأشري لهم العافية والسعادة والرضا، وعاقبوني بالصد والعقوق والجفاء، حتى غدوت قارباً بلا مجداف، وما عادت تعنيني بعدهم البوصلة، لأنني ضائع في أربخيلهم اللغز، في وقار الشيب أنفث آسي وأسفي وحزني، وبرودة الأحلام تنسيني وهاد المجهول، في صقيع انتظار الرحيل، لقد أصابتني منهم الفجيعة، والفجيعة مرة مؤلمة وقاسية، مر صار طعم حياتي، هذه كفوفي باردة، لأنها لا تعرف الاسترخاء، أحاول أن أمسك ظلي وأستند للجدار، أحاول أن أقابل الناس والطرقات، أمر بقربهم، أبتسم لهم وللحياة، أدع كل أشيائي الحافلة بالرتابة، أحاول أن لا أمارس عزلتي، لكن متسع رؤياي يضيق، وفرحي يصغر، لأن الذين أبحروا عني باعوني بثمن بخس، وتركوني فريسة للمواجع، وقصة تلوكها ألسنة الناس في مجالسهم، أو حين يقفون على طلل، تصور ما زلت أسمع ضحكاتهم، إذ يطوفون علي حلماً في الهزيع الأخير من الليل، هم ينامون مثل الأجنة في البطون، وأنا يتعثر حذوي على بلاط بيتي، أكون يقظاً، أقول قد يجيئون قبل أن يأخذني النوم، أشعل الضوء كي لا يحل علي الظلام، كنت من أول ما يفتح الباب لهم، وآخر من يغلقه، لكنهم أول من أغلق الباب علي، ونمت بعدهم على العتبة، صار حلمي أسود، بعد أن علمتهم معنى الحياة، وأشعلت لهم القناديل، خرجوا عني، حتى صرت مثل طير في قفص، أتذكر وأنا أجلس معهم هانئاً في رذاذ المطر، كنت أحنو عليهم، وأخاف عليهم من رذاذ المطر، ولم أك أدرك بأنهم سيفرون مني كقنبرة، ليس ثمة عمر طويل، أنا عشت طويلاً، لكنني لم أعش، أستوطنني الحزن للأبد، ولا شيء غير رفيف الغياب، أشعر الآن بأني أجنح للرحيل الأبدي، صار لي بعض ريش وبعض شراع، وأعلم بأنهم لن يأتون ليحملوني نحو باب الخروج المؤدي للمقبرة.