سلمان بن محمد العُمري
في حواره مع «الجزيرة» في عددٍ سابق يؤكد د. محمد السعيدي وهو الخبير المتخصص في الدراسات الفقهية بأن تكوين مجالس للإفتاء في مناطق المملكة الثلاث عشرة ليست حلاً لمشكلة انشغال الهيئة العليا للإفتاء وحسب بل حل للعديد من مشكلات الفتوى التي يعاني منها المفتون والمستفتون على حد سواء.
ولاشك أن ما طرحه السعيدي مطلب مهم ينبغي تحقيقه، وأعتقد أن تعيين «مفتي» لكل منطقة لعله يكون نواة لإنشاء مجالس الإفتاء بالمناطق، والمملكة زاخرة بالعلماء الشرعيين وليست بعاجزة عن اختيار مجموعة من ذوي الاختصاص في كل منطقة، ولقد صدرت التوجيهات السامية الكريمة منذ مدة بعدم نشر أي فتوى من قبل غير المخول لهم بالإفتاء لضبط الفتوى، ولكن للأسف مازلنا نقرأ ونسمع ونشاهد في وسائل الإعلام المختلفة من يتصدى لفتوى الناس بشكل مباشر وعبر برامج متخصصة أو إطلاقه لفتاوى وآراء خاصة عبر هذه الوسائل، وتحدث الكثير من الإشكالات والضجيج والتداعيات السلبية والتي ربما كانت تؤجج أو تثير الاحتقان، ولا يزال يتصدى للفتوى من هب ودب، ولا زال هناك جرأة عند الكثير من أشباه المتعلمين دونما أن يدركوا خطورة ما يقومون به على أنفسهم وعلى غيرهم فالرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار» وهذا الحديث الذي رواه الدارمي وإن ضعفه أهل الحديث إلا أن معناه صحيح.
ولقد هاب الصحابة والتابعون والسلف الصالح الإفتاء والفتوى لأن أمرها عظيم وتحرّزوا منها بل كانوا يردون الفتاوى.
ومن الأمور السلبية المنتشرة الآن نشر الفتاوى المكذوبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونسبتها إلى علماء وكأنها من مقولاتهم وإقرارهم أو تصدي بعضهم للفتاوى عبر الفيس بوك وتويتر بل وحتى السناب شات. وأصبح عامة الناس لا يميزون عمن أخذوا هل يستحق أن يسمع ويؤخذ منه أم لا؟ وهل وصل إلى مرحلة الاجتهاد في الفقه أو أوكل إليه الأمر من جهات الاختصاص.
لقد اتفق العلماء على جواز الاستفتاء لمن عرف بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة، كما أنهم اتفقوا على امتناع الاستفتاء لمن عرف بالجهل وعدم العدالة أو أنه فاقد لأهلية الاجتهاد، والمشكلة أن من هم أهل للعلم والفتوى يتحرزون ويتجنبون الفتوى براء لذمتهم، في حين أن هناك من لم يبلغ مبلغ العلماء وتراه يتصدى للفتوى، هذا الأمر الذي عرف قدره السلف فهابوه وتنحوا عنه فعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا»، وقال سفيان الثوري: أدركنا الفقهاء وهم يكرهون أو يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا، وإذا أعفوا منها كان أحب إليهم، وقال أبو حنيفة لولا الفرقُ من الله تعالى أن يضيع العلم، ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر، وروي عن الإمام مالك أنه ربما يسأل عن خمسين مسألة، فلا يجيب في واحدة منها، وكأنه يقول من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة و النار كيف خلاصه ثم يجيب.
وعوداً على ما طرحه فضيلة الشيخ الدكتور محمد السعيدي فإنني أتمنى ونحن في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والنوازل ومع ما يقع بين الناس من إشكالات في أدائهم للعبادة وعلاقتهم بالآخرين وتعاملاتهم المالية الخاصة وعامة شؤونهم، إننا بحاجة إلى وجود مجموعة من العلماء في كل منطقة يكون من مهامهم الفتوى لئلا يتصدى للناس وللفتوى أناس لا يحملون من العلم ولا من الحكمة شيئاً فيفسدون على الناس دينهم ودنياهم ولئلا يكون هناك إفراط وتفريط، فالشريعة الإسلامية جاءت رحمة للعباد وبالصراط المستقيم، وقد يذهب من لا يملك مقومات الإفتاء إما إلى مذهب الشدة والتشدد أو إلى طرف التمييع والانحلال.
ولقد تجاوز الأمر إلى أن بعض العوام ممن لا يعرف بعلم ولا حكمة ولا رأي يقول في برنامج تلفزيوني وعن جهل مركب أنه لا يحتاج إلى «مفتي» ولا إلى شيخ مستنداً إلى الفهم الخاطئ لحديث «استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس» ففي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد- رحمه الله-، ولكن هذا لا يسوغ للجاهل بأمور الدين أن يفتي لنفسه وأهوائه ويقول هذا ما تطمئن إليه نفسي حتى وإن كان مع جهله وعدم علمه غارقاً بالمعاصي والآثام فيحلل لنفسه ما يشاء متى شاء أو التحريم لما أحله الله لمجرد أنه لا يهوى أمراً من الأمور.
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع لأهل العلم والأخذ عنهم فقال عز من قائل سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، وهذا ما سار عليه الناس من زمن الصحابة والتابعين فإنهم يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والآن ولله الحمد سنّت الدولة سنة حميدة بأن جعلت مجلساً لهيئة كبار العلماء وللمفتين ولجنة دائمة للفتوى وخصصت في بعض المناطق مجموعة من المفتين وبقي أن تعمّم هذه الخطوة بخطوات مماثلة في مناطق أخرى ويزاد عدد المفتين حاجة الناس أولاً ثم الثقة التي يجدها علماؤنا ولله الحمد ليس من المواطنين والمقيمين في هذا البلد فحسب بل من المسلمين في كافة أنحاء العالم.