كنت أستمع إلى صديقي بانبهار شديد وهو يتحدث باللغة التركية بطلاقة عجيبة، لم يكن مصدر انبهاري هو إتقانه لتلك اللغة بحد ذاته، ولكن لأنني أعرف أنه كان في زمن ما يتثاقل تعلم اللغة الإنجليزية، وفجأة بدأ يتقن اللغة التركية. ولم يكن يتقن اللغة فحسب، بل كان يتحدث عن تركيا وكأنه قد زارها، يصف أدق التفاصيل عنها وعن الوجهات السياحية وطبيعة الطقس وطبائع الناس والعادات الاجتماعية، بل إنه قد تحدث عن ثقافات سائدة لديهم رغم أنه لم يجر عنهم أية أبحاث ولست أصنفه قارئاً، فهو لا يكترث كثيراً بأمر القراءة. سألته بتعجب:
من أين لك هذا؟!
أجاب ببرود: ألا تتابع المسلسلات التركية؟!
لم تكن إجابته غريبة بالنسبة لي، فأنا كنت ومازلت مؤمناً بأن الفن يختصر الكثير من المسافات في توثيق وإبراز الهوية الثقافية والعادات الاجتماعية والأفكار الراسخة في مجتمع ما، بل إن الفن يقدم ما تعجز عنه الأبحاث ويختصر سنوات الدراسة الطويلة من أجل تعلم لغة ما أو اكتساب ثقافة سائدة. ولو عدنا بالذاكرة إلى منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات الميلادية لوجدنا أن الأفلام الهندية كادت تشكل غزواً ثقافياً لدى الشباب والمراهقين هنا في المملكة، إذ بدأ الناس آنذاك يتابعون تلك الأفلام وتشدهم الكلمات المكررة والتي يعاد ترديدها في الأغاني المصاحبة للفيلم، أو في الحوارات بين شخصيات الفيلم. هذا بالإضافة إلى تلك العادات التي رسختها الأفلام في ذاكرتنا مثل بعض العادات والمعتقدات الدينية لدى غير المسلمين.
الشيء نفسه حدث ومازال يحدث مع السينما والمسلسلات المصرية، فمن خلال الفن المصري قلما تجد من لا يستطيع التحدث باللهجة المصرية السهلة السلسلة الجميلة، بل إن المتابع القديم يستطيع التحدث بمختلف اللكنات كاللكنة الصعيدية واللكنة الإسكندرانية، هذا بالإضافة إلى ما تعرفنا عليه عن عاداتهم وطبائعهم، بالإضافة إلى تاريخهم الممتد منذ العهد الفرعوني. أي نعم أن كل ذلك من الممكن إيجاده في الكتب، ومن الممكن التعرف عليه من خلال الزيارات والسفر، ولكن الفن بات يختصر كل ذلك، وينشر العادات الاجتماعية ويوثق ويرسخ الهوية الثقافية.
وفي مجال الكتابة، فقد قرأت ذات مرة لصديق كتب في روايته عن بلدة لم يزرها أبداً ولا يعرف عنها شيئاً إلا من خلال ما تحفظه ذاكرته من المشاهد والحوارات السينمائية، قلت له بعد أن قرأت كتابه، لقد تذكرت المشهد الشهير في مسلسل صح النوم، حين كان حسني البُرزان يريد أن يكتب مقاله الذي لم يستطع أن يتمه: «إذا أردت أن تعرف ماذا في البرازيل، فعليك أن تعرف ماذا في إيطاليا»
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26@