د. محمد بن إبراهيم الملحم
كما أسلفت فإن خصخصة أي قطاع حكومي له جاذبية عالية للتخلص من أعبائه ورفع الحرج وربما توفير النفقات أحيانا لكن ماذا عن الجودة؟ هل سترتفع دائما نتيجة الخصخصة؟ في العمل التربوي فإن المعادلة مختلفة نوعا ما عن تلك التي تحكم خصخصة الخدمات، وقد ذكرت أن أهم ثلاثة عوامل تحكم الجودة قبل الخصخصة (النظم والقيادة والتحسين المستمر) هي نفسها التي تحكم نجاح الخصخصة، فأما أزمة التحسين المستمر فإنها ما يعاني منه العمل الحكومي كله وأبرز مظاهرها غياب معايير التقويم وممارساته الأصيلة مما يذرّ مصداقية الحكم على جودة العمل (سواء للأفراد أو القطاعات) هباء منثورا في فضاء الأداء الحكومي، وبدونه لا يمكن تصور كيف سيكون مصير منح المدارس للقطاع الخاص؟ المعلم الحكومي المتميز والمخلص له إنتاجية بنسبة معقولة نلمسها في قطاع جيد من المدارس الحكومية حاليا، والسبب قيمه الدينية والاجتماعية ولكن يساند ذلك كونه في إطار العمل الحكومي الذي يضمن له أمنا وظيفيا يشجعه على هذا العطاء، الآن كيف نتصور نفس المعلم مع القطاع الخاص الذي لا يقدم نفس القيمة بل ربما يقع هذا القطاع في حمأة استزادة كم الطلاب في مدارسه ليزيد ريعه من الحكومة (والذي غالبا سيبنى على عدد الطلاب) وعندئذ سيتخاصم مع المعلم المعطاء في نقطة «درجات الطلاب» تماماً كما يحصل الآن في تجربة المدارس الأهلية.. ما السبب؟ هو نفس السبب الذي أدى إلى سقوط قيمة المدرسة الأهلية وكذلك تردي مستوى المدرسة الحكومية: غياب أو تردي كفاءة تقييم الوزارة للأفراد وللمدرسة سواء الأهلية أو الحكومية والتقييم هو أساس التحسين المستمر.
أما عامل «النظم»، فعندما تم تخصيص قطاع الاتصالات فلا أعلم أنه كانت هناك معاناة من النظم التي تحكم ذلك القطاع وكانت المشكلة الكبرى في الخدمات وبالتالي نجحت التجربة، بينما في قطاع التعليم فطالما تحدثنا عن قصور النظم ونطالب بتحديثها وتطويرها سواء نظم التوظيف والترقية أو نظم الاختبارات التربوية أو نظم الإشراف والتوجيه وتقييم الأداء أو نظم حقوق المعلمين وواجباتهم أو نظم الانضباط الطلابي وحقوق الطلاب فلا زالت بعض هذه النظم سببا في مشكلات حقيقية ولو عدلت لحدث تغيير ملموس في تلك المشكلات، كيف نتصور مدارسنا تحت يد التعليم الخاص وهذه النظم لم تصل لمستوى يدعم جودة العمل؟ ربما يقال يأتي تطوير هذه النظم لاحقا، لكن كيف سيكون تفاعل الخصخصة معها؟ لن يتعامل القطاع الخاص مع نقائص النظم كالقطاع الحكومي بل غالبا يستغلها (كونه يسعى للربحية) بما يحقق مصلحته دون النظر للعواقب التربوية وهذا ملموس حاليا في تجربة المدارس الأهلية، وكمثال: فإن غياب الاختبارات (أو حتى المعايير) الوطنية فجوة تمكن تلك المدارس من جذب أكبر عدد من الطلاب من خلال كرم الدرجات وهذا لا يحصل في الدول التي تتبنى الاختبارات أو المعايير الوطنية.
العامل الثالث وهو القيادة لن أعلق عليه كثيرا لكن أشير أنه مزيج من المكونات المهمة أكتفي بأبرزها وهو «حسن التطبيق» لما تتضمنه النظم ولما تدعو إليه نتائج التحسين المستمر، فلك أن تتصور كيف يكون الأداء بنظم رائعة ودراسات وبيانات تقييم مميزة قد جمعت للتحسين والتطوير المستمر ولكنها لا تنفذ بكفاءة فلا قيمة لتلك النظم ولا تأثير لذلك التحسين وتبقى تلك كلها «حبر على ورق»، سؤالي لكم جميعا أيها الأخوة: هل مر أحدكم بمثل هذا؟ جوابكم هو تعليقي على العامل الثالث لنجاح الخصخصة لدينا «القيادة» فلا يحتاج مزيد تعليق.