اسمح لي عزيزي القارئ أن أصحبك اليوم في جولة على بعض أقسام الطوارئ بعدد من المستشفيات العامة والنفسية. وهدفي من هذه الجولة إطلاعك على أهم أسباب انتكاسة كثير من المصابين بأمراض نفسية شديدة الوطأة؛ مما يدفع بذويهم لأن يهرعوا بهم لأقسام الطوارئ، ويبذلوا ما بوسعهم للحصول على سرير تنويم نفسي لمريضهم، هو أندر الآن من الكبريت الأحمر.
ودعني أروي لك قصة اثنين من هؤلاء المرضى فقط. ففي تلك الغرفة المبطنة بمادة لينة بالكامل والمغلقة بإحكام، تم وضع رجل أعمال في الخمسين من عمره. وهو مصاب باكتئاب حاد، وقد منعه ذووه في اللحظات الأخيرة من شنق نفسه، وأحضروه للإسعاف بشق الأنفس. ولأنه مازال مصراً على الانتحار، فقد تم التحفظ عليه في هذه الغرفة الآمنة، تمهيداً لنقله لجناح الحالات النفسية الحادة. أما في هذه الغرفة الأخرى، فتقطن امرأة ثلاثينية، وأم لثلاثة أطفال، وهي مصابة باضطراب ثنائي القطب من النوع الشديد. وقد أحضرها ذووها نتيجة انتكاستها بنوبة هوس حادة (من أعراضها ارتفاع المزاج، وكثرة الحركة والكلام وتسارع الأفكار، وهوس العظمة، وقلة الحاجة للنوم، والتصرفات الطائشة ..الخ)، وقد وجدها أحد المارة تمشي بلا هدى خارج بيتها، وكان رجلاً أميناً، فساعدها حتى أوصلها لأهلها.
ولو فتشنا عن سبب انتكاسة هذين المريضين ومئات بل آلاف الحالات النفسية المشابهة، رغم أن معظمهم كان يرفل بصحة جيدة، ويؤدي وظائفه الحياتية بشكل مقبول، ولسنوات عديدة؛ لوجدنا هذا السبب يتكرر كثيراً (انتكست حالة المريض بعدما أوقف أدويته بدون استشارة الطبيب). والأدهى من ذلك والأمرّ، أن ذلك يحدث غالباً بفعل نصيحة مسمومة من (مُطبِّب جاهل)، وربما بضغط شديد من أحد أفراد عائلة المريض. فمن يا ترى يستحق أن يطلق عليه لقب (المُطبِّب الجاهل)؟!
لنعد لعنوان هذه المقالة، فهو حديث شريف، وقاعدة بديعة رسمها المصطفى عليه الصلاة والسلام نبراساً في هذا الباب «من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ فهو ضامن». فلا ينبغي أن يمارس الطب سوى من كان مؤهلاً. وقد ذكر ابن القيم من أقسام المعالجين:(مُطبِّب جاهل..فإن ظن المريض أنه طبيب، وأذن له في طبِّه لأجل معرفته: ضمِن -هذا المُطبِّب الجاهل- ما جنت يدُه، وكذلك إن وصف له دواء يستعمله، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته، وحذقه، فتلف به: ضمنه).
أما الطبيب الحاذق بحسب الأنظمة المعتبرة، فإن عالج وفق الأصول المهنية المعروفة، وترتب على عمله خطأ، كتلف عضو أو وفاة: لم يضمن الطبيب شيئاً؛ لأنه مأذون له في العلاج من الجهة الرسمية المختصة، ومن المريض أو وليه.
وكان وصف (الطبيب) في الماضي يطلق على كل من لديه خبرة كافية بالتطبب، أما في الوقت الحاضر فقد أصبح وصف (الطبيب) محصوراً على كل من نال الشهادات الكافية التي تجيز له ممارسة الطب وهي بكالريوس الطب والجراحة مع زمالات التدريب في التخصصات الدقيقة. وذلك يستدعي قضاؤه أربع عشرة سنة من عمره على الأقل، في الدراسة والتدريب، حتى يحصل على التصريح بممارسة مهنة (استشاري) من الجهة الصحية الرسمية المختصة (وهي لدينا الهيئة السعودية للتخصصات الصحية). ثم يحتاج الطبيب بعد ذلك لتجديد الترخيص الطبي لمزاولة مهنة الطب كل خمس سنوات؛ بعد أن يثبت استمرار أهليته، وعدم ارتكابه لمخالفات مهنية، ومواكبته لمستجدات الطب المتسارعة بحضور 150 ساعة على الأقل من أنشطة التعليم الطبي المستمر.
في المقابل، يتفق كبار الأطباء أن الطب الحديث، بالرغم من تطوره الهائل والمتسارع؛ مازال عاجزاً عن تشخيص وعلاج بعض الأمراض. ولذلك، سيبقى للطب التكميلي/البديل مكانته المهمة. ولاريب أن بعض التقنيات العلاجية المستعملة في الطب الشعبي، وفي مقدمتها الطب النبوي، مفيدة لبعض المرضى حتى لو افتقدت للتجارب العلمية المنضبطة. ويكفي دليلاً على نجاعتها وجود النص الصحيح الصريح من الكتاب والسنة.
واستهداء بما سبق ذكره، أود توجيه الرسائل التالية:
أولاً) لوزارة الصحة:
لقد أظهرت دراسة قام بها كاتب المقالة مع آخرين، أن قرابة خمس المراجعين للعيادات النفسية أو المنومين بالأجنحة النفسية في السعودية أميون، وثلاثة أرباعهم عاطلون عن العمل، ويقل الدخل الشهري العائلي لثلثيهم عن ستة آلاف ريال. كما أظهرت تلك الدراسة أن قرابة (نصف) المراجعين للعيادات النفسية أو المنومين بالأجنحة النفسية في السعودية، مصابون باضطرابات استقلابية متعددة كالسمنة، والسكري وضغط الدم وارتفاع الدهون. وفي دراسة علمية أخرى لكاتب المقالة مع باحثين آخرين، تبين أن ثلاثة أرباع مراجعي استراحات الرقاة/ المعالجين الشعبيين مصابون بأمراض نفسية، بينما 40% لديهم أمراض جسدية. كما تعرض 4% منهم للضرب الشديد أوالخنق أو الصعق بالكهرباء بواسطة هولاء المعالجين.
ولذلك أدعو وزارة الصحة لتحسين خدمات الصحة بشكل عام والصحة النفسية بشكل خاص، وفي مقدمة ذلك دمج الرعاية النفسية في القطاع الصحي العام. كما أدعوها لإجبار شركات التأمين الصحي على إدراج علاج الأمراض النفسية ضمن الأمراض المكفول علاجها في بوليصة التأمين العلاجية الأساسية، أسوة بما هو متعارف عليه عالمياً. وقد بسطت الكلام حول ذلك في مقالة سابقة بعنوان (الصحة النفسية شرط لتحقق رؤية السعودية 2030).
أما بالنسبة للطب الشعبي/التكميلي، فأنا أدعو بشدة لتقنين هذا الأمر، وإيجاد تصاريح خاصة بممارسة الطب الشعبي، تسمح بعلاج أمراض محددة بتقنيات علاجية معينة، مع التوثيق في الملفات الطبية. وألا يسمح لأحد بأن يُطبب الناس إلا في منشآت علاجية مصرحة، تحت المراقبة الصارمة المستمرة من الجهات الصحية المختصة كما هو الحال في المنشآت الصحية الأخرى. كما أدعو الأطباء والباحثين لإخضاع هذه التقنيات لتجارب الطب المبني على البراهين.
ثانياً) للأطباء:
أدعو نفسي أولاً وزملائي الأطباء بشكل عام، والأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين بشكل خاص لتطوير الخدمات الصحية الجسدية والنفسية والاجتماعية المقدمة للمرضى، ومن ذلك تحسين مهارات الاتصال مع المرضى وأهاليهم؛ والذي يزيد من رضاهم عن الخدمات الصحية، ويقلل من لجوئهم للمُطببين الجهلة والدجالين. وفي دراسة ستنشر قريباً لكاتب المقالة مع آخرين، حول أسباب لجوء بعض سكان مدينة الرياض لاستخدام الأدوية ذات التأثير النفسي من غير وصفة طبية (وذلك بالشراء من الصيدلية مباشرة)، ذكر 42% منهم بأن سببب ذلك هو عدم شعورهم بشدة أعراضهم النفسية، و37 % لعدم قرب خدمات الصحة النفسية من مكان سكنهم أو ازدحامها، و29 % أرجعوا ذلك إلى التكلفة المادية المرتفعة للعيادات النفسية، و23 % لضعف ثقتهم بالأطباء النفسيين. وباستخدام مقاييس نفسية للتحري، ظهر أن نسبة انتشار اضطراب الاكتئاب الجسيم بين المشاركين تصل 46 %، واضطراب القلق العام 42 %.
ثالثاً) لأقارب المرضى:
لا ينكر عاقل أن الدعم الذي يقدمه الأهالي لمرضاهم لا يقدر بثمن؛ في ظل ضعف الخدمات المساندة المقدمة للمرضى لدينا في المستشفيات. ولكن في بعض الحالات أخشى أن يتحمل (بعض) أقارب المرضى وأصدقاؤهم أوزاراً كبيرة عندما يقدمون نصائح (مسمومة) لهم، بل أحياناً يمنعون بعض المصابين بأمراض نفسية أو أورام من تلقي العلاج الطبي الملائم، أو يتأخرون في ذلك. وبدلاً من ذلك يسلمون المريض لبعض الجهلة والدجالين الذين امتهنوا علاج الناس وتطبيبهم في الأقبية المظلمة، والاستراحات الخاصة بلا رقيب ولا حسيب!
أما لو كان ذلك قرار المريض بنفسه، وبلا تأثير من أحد، فلا تثريب حينئذ. وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي بعدم وجوب التداوي، إلا إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
قفلة:
عزيزي القارئ: عندما يشكو لك عزيز لديك من إصابته بأعراض مرضية، نفسية كانت أو جسدية؛ فأنصت له بكل جوارحك وتعاطف معه وادع له، ولكن لا تُطببّه. وإذا استنصحك فانصحه باستشارة طبيب؛ فذلك أبرأ لذمتك، وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ فهو ضامن).
والله من وراء القصد
- أستاذ مشارك بكلية الطب بجامعة الملك سعود بالرياض، واستشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي