قبل أكثر من ألفي سنة، كانت إمبراطورية الصين دوله عظيمة سابقة عصرها في المجالات التجارية والاقتصادية، فكان تجارها يقومون برحلات استكشافية للدول والحضارات المجاورة لإقامة العلاقات التجارية وتبادل السلع والمنافع، مما نشأ عن هذا المجهود ما يطلق عليه اسم (طريق الحرير)، وهذا الطريق عبارة عن طرق ودروب تجارية تربط الصين بوسط آسيا مرورا إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وانتهاء إلى أوروبا (الدولة الرومانية). وأطلق اسم طريق الحرير لوفرة الحرير المصدر من الصين عبر هذا الطريق إضافة إلى السلع المتنوعة الأخرى، لم يمضِ كثير من الوقت حتى اكتشف التجار ان طريق البحر أكثر أمانا من الطرق البرية فأصبح لطريق الحرير طريقان بري والآخر بحري، والطريق البحري يمر بساحل الصين نحو جنوب شرق آسيا مرورا بالهند ووصولا إلى جنوب الجزيرة العربية ثم إلى الشرق الأوسط (من خلال البحر الأحمر) وشمال أفريقيا (مصر)، وطريق الحرير البحري هو ما يهمنا في هذا المقال.
لم يقتصر طريق الحرير على المصالح التجارية فقط بل انتقلت عبر هذا الطريق الثقافة والعلوم والمعتقدات واللغات والأديان والأفكار بين البلدان الممتدة على هذا الطريق، مما دفع الشعوب والحضارات إلى تعلم لغات الشعوب الأخرى، فأصبح هذا الطريق وسيلة تواصل بين الشعوب وتبادل للمخزون المعرفي للبشر في ذلك الزمان، حيث يُعدُّ هذا الطريق أول وسيلة تواصل بين الشعوب عرفتها كتب التاريخ (كتب التاريخ لم تطلع إلا على ثلاثة آلاف سنة مضت من تاريخ حضارات البشر)! قال تعالى (وما أوتيتم من العلم إلى قليلا).
ذكر في القرآن الكريم عن رحلة الشتاء والصيف، حيث كان تجار مكة قبل ظهور الإسلام يسافرون في الشتاء جنوبا حيث بحر العرب لشراء السلع وبيعها صيفا في الشام، فهل تساءلتم من أين أتت هذه الخيرات؟ نعم فهذه الخيرات هي تجارة الصين حيث كان طريق الحرير البحري يمر ببحر العرب جنوب الجزيرة العربية، ومما عزز من تجارة العرب وازدهار اقتصادها في ذلك الوقت مهارة البحارة العرب في الإبحار وصناعة السفن، وهكذا كانت هناك منافع اقتصادية قوية عبر هذا الطريق البحري.
لسبب أو لآخر اندثر هذا الطريق، وفي عصرنا الحاضر أعلنت الصين عن إطلاق مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وهو إحياء لطريق حرير الأمس، حيث تعتزم الصين (قطب الاقتصاد الشرقي) إلى إنشاء مسارات تجارية واقتصادية تربط الصين بالهند وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا.
اللافت هنا ان رؤية المملكة 2030 تتقاطع مع مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير في كثير من المصالح الاقتصادية، والتاريخ يعيده نفسه، فموقع المملكة الجغرافي الجوهري ومضائقها البحرية وما ستوفره من خدمات لوجستية ستكون بلا شك معبر أساسي لطريق حرير اليوم، وهذا ما أكد عليه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من الانفتاح للأسواق العالمية (وما يحمله من المنافع الاقتصادية وغير الاقتصادية) والتأكيد والاستعداد التام للاستفادة من موقع المملكة لتكون محورا لوجستيا ومعبرا للحراك الاقتصادي الكبير بين قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا.
ومن يراقب تناغم المحور اللوجستي لرؤية 2030 مع مبادرة طريق حرير اليوم، وزيارة سمو ولي ولي العهد للصين وما تخلله من اتفاقيات اقتصادية متنوعة والاجتماع بطلاب الوطن في الصين وتشجيعهم على تعلم لغة الصين وعلومها، وأيضاً ما تحدث به معالي وزير الثقافة والإعلام عما قاله رئيس وزراء الصين شينزو للأمير محمد بن سلمان عند لقائه ((لقد قرأت رؤية 2030 ونرغب بأن نكون جزءاً من هذه الرؤية)) سيتضح له ان هذه الاستراتيجيات أتت من قراءة حكيمة وبارعة لتاريخ الأمس ومنافع الغد.