حين تراه وقد أربى على العقد الثامن تهابك قسماته ويأخذك من قريب وبعيد بعيون قد أضناها السهد وطول المطالعة فاستعان بنظارات تزداد سماكتها كلما تقدَّم العمر! وتجد فصول الثمانين خريفاً ونيّف قد تركت آثارها على تجاعيد تنبؤك بتاريخ دُوّن على صفحاتها! تقلبت به الحياة حتى عركته تلك السنون وعركها! وشابت الذوائب منذ زمن فلم يبق للسواد بقيّة حين حمل هموم القلم فزاحم الأبيض مَفْرقه دون خجل! وأصبحت عصاه لا تفارقه يتوكأ عليها دون أن تكون له فيها مآرب أخرى! تأخرتُ كثيراً حين لم أتناول سيرة الأستاذ عبدالله الشباط فكان عليّ أن أسجّل له كلمات الامتنان والشكر على ذلك العمر المديد الذي سخّره في طاعة الله ثم الأدب والصحافة فقليل من ذلك الجيل الجميل على شظف العيش وقلة الموارد أن يمتهن قلبه وعقله فن الكتابة والأدب والصحافة أيضاً ويستمر حتى يومنا هذا دون كلل أو ملل ويكون إنتاجه بصمة يوثقها على جدار الزمن! بل حق له أن نذكره كواحد من عمالقة منطقتنا الكبار الذين ضحّوا بالنفس والنفيس في سبيل رفعة هذه المنطقة وتدوين أدبها وتاريخها! وحقٌ له عليّ أنه من بلدتنا القديمة التي ذكرها في أحاديثه الممتعة والتي ما فتئ يذكرها كماضٍ يفتخر به ونفتخر به نحن أيضاً، ولو لم يكن له سوى تضحيته بمال زواجه الذي جمعه وعدّده ثم أنفقه على تأسيس المجلة التي أصدرها في الخمسينات الميلادية وخسرها بإغلاق المجلة لو لم يكن له من التضحية إلا هذا لكفاه ذلك مؤنة الذكر وحسن الأحدوثة!
في منتصف القرن الماضي كانت هناك شخصيات إحسائية حملت على عاتقها أمانة العلم والأدب وآلت على نفسها التضحية بعزم لتمسح الغشاوة عن أعين أصابها الرمد طويلاً لتشاهد بوضوح الحضارة الحديثة التي نرى بعضها فقط عبر التلفاز الأسود والأبيض! لم يكن الأديب عبدالله الشباط إلا أحد هؤلاء الشباب المتحمس والذي بدأ مشواره الطويل الماراثوني منذ المرحلة الابتدائية مروراً بالمعهد العلمي والتدريس في وقت كان التعليم النظامي يمشي الهوينا ببطء شديد مع قلة المتعلمين! ولك في سيرته التي دوّنها في أحاديث بلدتي القديمة غنىً عمّا سواها لتعرف مدى ما كابده من عناء ومشقة حتى بلغ من الغاية ما تطمئن بها نفسه فكانت مراحله كلها تضحية بحب وشغف وعزم متواصل يغذ فيه السير حثيثا مع شحٍ في الأدوات والمصادر! يسابق الزمن لعله يظفر بأمنيته التي طالما حَلُم بها وهي أن تكون للمنطقة مجلة تُحي الحياة الأدبية وتكون سجلاً حافلاً وتاريخاً للشباب الموهوب ليحاكي بذلك ممن سبقهم إلى عالم الصحافة والأدب في الخليج فكانت مجلة (الخليج العربي) الإنتاج البكر التي لم تستمر طويلاً لضيق ذات اليد فكان كالقارب الذي تحطم مجدافاه ولكنها مغامرة تستحق المحاولة تحركت على أثرها مياه راكدة في خليج ساكن الأمواج على جرأة سبّاقة لم يقترب منها أحد من قبل ففتحت الأبواب المغلقة لمن سار بعده على الطريق! لم يكن أستاذنا ممن يستهوي الظهور فكأنه يتبع الفلسفة اليونانية (لا إسراف) فقد يجهله البعض لأنه غير مسرف أمام فلاشات التلفزة والصحف غير مسرف في الحديث عن عصاميته وكفاحه، بسيط كل البساطة في تواضع جم حين يذكر سيرته لا يغلو في تواضعه فتجده يضع نفسه كما يحب أن تكون بوسطية ! هكذا هو أبوأحمد أطال الله في عمره حكاية تاريخ طويل في رجل قد لا يحبذ إطراءنا تواضعاً ولكننا نحبذه لأنه واجب قصّرنا دونه وهو جهد المقل!
- زياد السبيت