إعداد - مركز الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ«الجزيرة»:
في كل الدول، يوجد ثلاثة قطاعات تلعب دورًا حيويًا في التنمية، القطاع الحكومي، والقطاع الخاص، ثم القطاع الأهلى أو الجمعيات الخيرية.. يقع عبء التنمية الرئيس على القطاع الحكومي يسانده القطاع الخاص، وخلال فترة نضوج الاقتصاديات تتحول الدفة من الحكومي شيئًا فشيئًا إلى نظيره الخاص، ولكن القطاع الحيوي والأكثر مرونة في التنمية هو القطاع الأهلى، لأنه غير مرتبط بأهداف ربحية ولا منفعة، ولأنه قادر على إدارة التنمية في رحاب أهداف مجتمعية خالصة بعيدًا عن المنفعة الخاصة.
وفي المملكة تكشف إحصاءات «مداد»، أن عدد الجهات الخيرية يصل إلى 987 جهة، في حين يكشف التقرير الرسمي لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية «سابقًا وزارة الشؤون الاجتماعية قبل دمجها مع وزارة العمل في وزارة واحدة» أن عدد الجمعيات في المملكة يصل إلى 748 جمعية بين جمعيات ومؤسسات خيرية، منها 83 جمعية نسائية، فيما بلغ إجمالي المعونات المصروفة على تلك الجهات نحو 753 مليون ريال خلال عام 2014م.
ويشير تقرير آخر للوزارة، إلى أن عدد أعضاء تلك الجمعيات يناهز 153 ألف عضو، ويصل عدد العاملين فيها نحو 16 ألفًا، في حين يصل عدد أعضاء المجالس الإدارية لأكثر من 5 آلاف عضو.
وتفيد تقارير رسمية، أن عدد السعوديين المستفيدين من خدمات وكالة الضمان الاجتماعي خلال العامين الماضيين يناهز 798 ألف حالة، وتؤكد إحصاءات رسمية أن الدولة ترصد سنويًا نحو 12 بليون ريال لوكالة الضمان الاجتماعي.
وإذا كان حجم الدعم الحكومي لهذه الجمعيات لا يزيد عن 753 مليون ريال، فإن حجم التبرعات التي تتلقاها قد يتجاوز 10 أو 20 أو 30 ضعفًا هذه القيمة أو ربما أضعافًا مضاعفة، وخصوصًا في ظل انتشار فكر الإحسان والاحتساب والخير بالمملكة بصفتها دولة الخير.. فتشير إحصاءات عديدة إلى أن كثيرًا من رجال الأعمال يفضلون التبرع الخيري، وبنسب محسوبة من الأرباح السنوية لشركاتهم.. وبأقل تقدير فإن قيمة التبرعات تصل إلى بضع عشرات من المليارات.. السؤال هو: كيف تنفق؟ وهل ما يزال الشكل الرعوي أو الخيري هو المسيطر عليها بعيدًا عن سياق العمل التنموي المستدام المولد للقيمة المضافة؟
ينبغي التأكيد بداية، على أن التوجهات التنموية لا تتناقض مع التوجهات الخيرية، فكلاهما يمثل جهودًا تطوعية لدعم المجتمع، إلا أن التوجه التنموي يميل إلى تأكيد مفهوم تمكين المواطن، لكي يعتمد على نفسه، ويتحول إلى مشاركة حقيقية في عملية التنمية فمساهمة كل شخص وكل تجمع مطلوبة.
الدور التنموي للعمل الخيري تنبع أهميته من قدرته على استشعار وتقدير حاجات المواطنين، باعتباره الأقرب إلى القاعدة الواسعة، ويستطيع أن يقدم خدمات بطريقة أفضل وأدعي إلى رضا المنتفعين، ويستطيع كذلك أن يدبر موارد جديدة وغير محدودة تضاف إلى ما ترصده الدولة للموازنات لتحقيق أهداف التنمية المستديمة.
وتنبع أهمية الجهود التنموية للجمعيات الخيرية من الانتشار الجغرافي لها ليس في المحافظات والمدن الكبرى، ولكن على مستوى كافة المدن والقرى والهجر الصغيرة في ربوع المملكة.
هذا وفي ظل المستجدات الاقتصادية بالمملكة، فإن هناك أهمية كبرى لمراجعة توجهات العمل الخيري والسعي لتحقيق أعلى قيمة مضافة من الموارد المالية المتاحة للجمعيات الخيرية.. فبالرغم من أن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أعلنت تحولها من الرعوية إلى التنموية، إلا أن هذا التوجه ما يزال قيد التنفيذ ولم يتسع نطاقه.. بل إن التوجه الصحيح، ينبغي أن يبدأ باعتبار الموارد المالية للجمعيات بمنزلة مال عام يسير في طريق سد نفقات معينة بأشكال معينة، وبالتالي يخفف على كاهل موازنة الدولة نفقات معينة.
وأولى خطوات نجاح هذا التوجه يتعلق بتنمية قواعد البيانات، والسعي لرصد قواعد شاملة للبيانات عن الجمعيات الخيرية، ليس من حيث العدد فقط، وإنما من حيث النشاط وتوزيع المشروعات والمستفيدين والعضوية وفقًا للنوع والميزانية ومصادر التمويل وغير ذلك من بيانات أساسية، التي تجعلنا نقترب أكثر من القطاع الخيري ونتفهم دوره وتجعلنا قادرين على تقويم هذا الدور.
فالدولة الآن تدفع للمستفيدين مباشرة وللجمعيات الخيرية بطريق غير مباشر، وهنا نحتاج لإزالة هذه الازدواجية، بحيث يعد كلاهما مكملاً للآخر..
وأهم نقطة في القطاع الخيري ينبغي تنميتها، هي المشروعات، يجب أن نحدد ماهية المشروعات التي تقوم بها كل مؤسسة خيرية، ففكر التقديم النقدي للمساعدات لم يعد مناسبًا لطبيعة الفترة، فلو حسبنا حجم المساعدات النقدية المقدمة لمستفيد واحد (500 ريال شهريًا) على مدى 10 سنوات، سنكتشف أنها تناهز 60 ألف ريال، هذه القيمة المقدمة لمستفيد واحد كان يمكن بها بناء مصنع صغير، قادر على إيجاد إيراد مستديم له مستقبلاً.. وهذا هو الفكر التنموي المستدام الذي نبحث عنه، بل إن هذا المصنع الصغير كان يمكن أن يكون قادرًا على إيجاد إيراد لهذا المستفيد وأيضًا فرص عمل لمستفيدين آخرين، فضلاً عن عدم احتياجنا لتقديم مزيد من المساعدات النقدية في المستقبل لعدد من المستفيدين يصل إلى خمسة على أقل تقدير.
إن التوجهات الجديدة للعمل الخيري ينبغي أن تصب في طريق تحويل المساعدات النقدية أو العينية للمستفيدين إلى مشروعات تنموية يعمل أو يستفيد منها هؤلاء المستفيدون، وهنا نؤكد على أن المستفيد غير القادر أو غير المؤهل للعمل أو التنفيذ أو الإشراف على هذه المشروعات يمكن أن يكون هو «المستفيد من إيراداتها فقط».
وفي اعتقاد وحدة الأبحاث والتقارير بـ«الجزيرة» أنه سنويًا مع رصد موازنة الدولة، يمكن أيضًا أن نرصد موارد تقديرية للعمل الخيري، ونخصصها في مسارات أو مشروعات معينة تخدم رؤية متكاملة للتنمية بالمملكة.