د.عبد الله بن سالم الزهراني
تتحمل وزارة الداخلية مسئولية كبيرة لكنها لا تتحمل المسئولية كاملة في القضاء على الإرهاب واقتلاعه من جذوره أو القضاء على أي نوع من الممارسات الجنائية التي ترتكب داخليا كالسرقات وجرائم القتل والترويج وكذلك جرائم التهريب للمخدرات وغيرها عبر الحدود. لا يمكن لأي وزارة أو أي جهة مسئولة عن الأمن في أي بقعة من العالم أن تمنع الإرهاب والجرائم لوحدها، ولذا لابد أن يكون هناك شراكة مجتمعية وشراكة دولية.
عندما يتستر أناس على إرهابيين فهذه شراكة في الجريمة. وعندما يبلغ أناس عن وجود إرهابيين فهذا منع لجريمة ومشاركة وشراكة فعالة أمنية مع وزارة الداخلية. عندما يهرب أناس سلاحاً ويبيعوه في المجتمع لإرهابيين أو غيرهم فهذا مشاركة في الجريمة بشكل مباشر أو غير مباشر. وعندما يكتشف أحد أفراد المجتمع من غير رجال الأمن ذلك ويبلّغ فإن ذلك مساندة لدور وزارة الداخلية. إلا أن ذلك يظل على مستوى قدرات فردية.
وزارة الداخلية مشكورة تتحمل العبء الأكبر في الذود عن أمن المملكة ورعاية المواطن وحمايته بكل ما تستطيع. يضحون رجالها بأنفسهم, ويواجهون الإرهابيين بجسارة, ويتدربون. تسخر لهم كافة الإمكانات. استطاعت وزارة الداخلية برجالها البواسل أن يستبقوا كثيرا من المخططات الإرهابية ويفشلوها في مهدها. كما استطاعوا أن يقللوا الخسائر في الأنفس والأموال في كثير من الحالات. استطاعت وزارة الداخلية أن تحمي المجتمع بعون من الله وتوفيقه وذلك بالقبض على مهربين ومروجين للمخدرات وإتلاف ملايين الحبوب المخدرة وعشرات الأطنان من الحشيش وكثير من أنواع المخدرات.
تعرضت المملكة العربية السعودية لهجمات إرهابية منذ أكثر من عقدين وكانت دموية وشرسة ولا شك أنها أحدثت ربكة. لكن وزارة الداخلية كانت استجابتها سريعة وردودها وضرباتها كانت موجعة منذ عهد صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. ضربات استباقية وتفكيك لخلايا إرهابية وقتل للبغاة العصاة المعتدين الآثمين. فتح في نفس الوقت باب التوبة من خلال لجنة المناصحة. تراجعت الهجمات الإرهابية حتى تكاد أن تختفي. حمل لواء الأمن والتخطيط لاجتثاث الإرهاب صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية. لاشك أن الشعور بالأمن والاطمئنان في أعلى درجاته في المجتمع السعودي هذه الأيام. لقد تابعت كما تابع غيري من الملايين السعوديين وغير السعوديين الاستعدادات لموسم الحج. شاهدنا رجال الأمن البواسل واستعداداتهم وتدريباتهم وقدراتهم وآلياتهم وهممهم ومعنوياتهم العالية. شاهدنا انطباعات الغبطة والفخر والابتهاج على محيا المسئولين وعلى رأسهم سمو وزير الداخلية. وجاء موسم الحج نقيا طاهرا سالما من كل المنغصات والتجاوزات الأمنية وابتهجنا جميعا.
ولكي تستمر البهجة المجتمعية فإنه يتعين على المجتمع أن يشارك في المسئولية الأمنية بكافة مؤسساته لدعم دور وزارة الداخلية. لكن كيف تشارك مؤسسات المجتمع في مساندة ومشاركة وزارة الداخلية في اجتثاث الإرهاب المنظم بكافة أشكاله وممارساته؟
لعل من أهم المؤسسات ذات التأثير على المجتمع بشكل عام هي الجامعات.
يوجد بالمملكة أكثر من 35 جامعة حكومية وأهلية وكل جامعة بها مركز أبحاث بل كل كلية بها مركز أبحاث. وبحسبة بسيطة لو افترضنا أن متوسط عدد الكليات 8 بكل جامعة فهذا يعني وجود نحو (200) مركز بحثي ما بين الصحية والعلمية والاجتماعية الإنسانية. هذا عدا ما تقوم به مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية من دعم كبير للبحث العلمي الذي تعلن مشاريعه السنوية بميزانيات كبيرة.
وزارة الداخلية بها مركز أبحاث الجريمة ربما من ثلاث عقود أو أكثر، ويقوم بدور ممتاز ويستعين بأساتذة جامعات لكنه لا يكفي لوحده. جامعاتنا متهمة بأن أقل ما يصرف من مال من ميزانيتها هو على البحث العلمي. وحاولت في الآونة الأخيرة أن تخفف من أثر هذه التهمة وزادت من ميزانيات البحث وخاصة بعد ظهور تقييمات وترتيبات علمية للجامعات العالمية حيث لم يكن موقع جامعات المملكة بالسار في سلم الترتيب. ولذا على الجامعات ألا تتراجع ميزانياتها للبحث العلمي، بل يجب زيادتها مهما نقصت ميزانية الجامعة عن أمور أخرى. لن يشفع للجامعات سوى أبحاثها القيمة وابتكارات طلابها وأساتذتها. وهذا لن يتأتى إلا بالصرف السخي والإخلاص في البحث والتقصي والاستفادة والتطبيق لنتائج أي بحث. لا بد أن يكون البحث مفيدا للمجتمع وقابلة نتائجه للتطبيق. وعلى هذا الأساس فإن الجامعات مطالبة بمشاريع بحثية جماعية تتعلق بتفشي ظاهرة الإرهاب ومختلف الجرائم التي تبرز في المجتمع. تبحث في جذورها في مسبباتها. لا يكفي أن نقول إن للمناهج دور في تفشي ظاهرة الإرهاب دون فحص واع ودراسة متأنية على أسس علمية واستبانات على ما يمكن ممن تورطوا في جرائم. لا يمكن أن نقول إن المساجد وبعض الخطباء يسهمون في بذر بذور الإرهاب دون دراسة علمية عميقة. لا يمكن أن نجزم بأن بعض الدعاة بفتاويهم وبمحماسهم المفرط ودعوتهم للجهاد دون وعي يمكن أن يكون سببا رئيسيا للإرهاب دون دراسة وتقصي. لا يمكن أن نقول لا علاقة لإرهابي الداخل بتنظيمات خارجية دون بحث وتعاون مع وزارة الداخلية وتحليل علمي. لا يمكن أن نقول إن بعض المعلمين في التعليم العام أو الجامعي يسهمون في بذر بذرة الإرهاب بقصد أو بدون قصد طالما لم نبحث وندرس ونستقصي. قد يكون هناك مؤشرات واستنتاجات وحالات مضبوطة من قبل الأمن من كل تلك الفئآت المختلفة, لكن يظل البحث العالمي والتنسيق مع وزارة الداخلية هو عنصر فعال وداعم لها في مكافحة الجريمة والوقاية من شر الإرهاب. قضايا كثيرة مجتمعية ذات علاقة بدعم وزارة الداخلية لا بد أن تبحث. أسر من مارس الإرهاب من أبنائها يحتاجون لدراسة اجتماعية موسعة لأن كل هذه الأسر أو أغلبها لم تكن لتعلم كيف انضم ابنها لجماعة إرهابية. ولكن بالتأكيد ستجيب عن أسئلة البحث بما يتعلق بسلوكيات ذلك الابن، عن نمط حياته ،عن تعامله مع الآخرين، عن مدى تواجده بالمنزل، عن أصدقائه، وعن أشياء كثيرة. الإجابةعنها ستعمم نتائجها بالدراسة وستكون إنارة للوزارة وللأسر لتجنب وقوع أبنائها وبناتها في حبائل الإجرام والإرهاب.لو اقتطع القادرون من الأساتذة (5 دقائق) من محاضراتهم لإعطاء ومضات حول مخاطر تهدد المجتمع لكان التأثير فعالا. اقتراب الأساتذة من طلابهم وفتح مكاتبهم والاستماع لنقاشاتهم يقلل بشكل مباشر وغير مباشر ما يقد يتعرض له الشباب من غوايات أو انحرافات.
المدارس دورها إيجابي في الأصل وهي مسئولة عن التوعية المبكرة للطلاب والطالبات. المعلمون هم القدوة وهم من يعول عليهم في رعاية التلاميذ والتلميذات وتحصينهم بدرجة كبيرة من الانجراف تجاه المخاطر بأنواعها. الخطر ليس في التوجهات الفكرية الخطرة فقط وإنما المخدرات والانحراف السلوكي بأنواعه أيضا. المعلم يظل بشرا له انفعالاته وله توجهاته وله تمنياته. قد يقوده الحماس إلى قلب الدرس إلى محاضرة دينية رغم أن الموضوع هو رياضيات أو غيرها ويوجهه إلى وجهة قد تكون خطرة. التلاميذ في التعليم العام عجينة قابلة للتشكل وتقبل ما يقوله الأستاذ كمسلمات وخاصة عند تكراره على المسامع يوما بعد يوم. المعلم يحتاج لدورات مستمرة ولتقييم ولمكافأة المميزين منهم ولمعاقبة المتقاعسين والمقصرين منهم وذلك بعد إنذارهم. المناهج تحتاج لمراجعة مستمرة ويجب أن تتضمن محتوى يساعد التعامل مع الحياة وبالذات البيئية والمرور والتنبيه للمخاطر وهذا جانب إيجابي يدعم الجانب الأمني ويقلل من احتمالية الانجراف أو الانحراف الذي يسهم في إثقال كاهل الأمن.
المساجد لها دور إيجابي وقد يكون لها دور سلبي دون قصد. الدور الإيجابي هو التنبيه إلى المخاطر والتحذير من الانخراط في تنظيمات إرهابية وتوعية الناس بالتنبه لأبنائهم. لا يكفي التهديد بالنار وما ينتظر الإنسان المخطئ المرتكب للجرائم من عقاب وحساب يوم القيامة. فالخطاب الديني لا بد أن يكون بطريقة مشوقة مقنعة وبحكمة وموعظة حسنة. من هنا ستكون تلك المساندة لإيجابية لوزارة الداخلية بطريقة غير مباشرة. أما الدور السلبي فيتمثل في حماس بعض الأئمة والخطباء يوم الجمعة واندفاعهم والخروج عن روح الخطبة وحث الشباب على الجهاد وإظهار فضل الجهاد متناسيا أن من يدعو له هو ولي الأمر. يركز بعض الخطباء على ما يحدث للمسلمين في سوريا وغيرها وهذا جميل ولكن عوضا عن الدعوة للتبرع لهم عبر القنوات المرخصة فإنه يدعو إلى نصرة إخوانهم في تلك الأماكن بالنفس والغالي والنفيس، فيلتقطها المتحمسون من الشباب ويصطادهم المنتفعون ويلقون بهم إلى أتون الحرب من خلال داعش والقاعدة وغيرها من المنظمات الإرهابية. شباب متفرقون في الوصول لا خبرة لهم ولا دراية لهم بما ينتظرهم . يقعون فريسة للمجرمين الذين لا تأخذهم رحمة ولا شفقة. يفخخون أجسادهم ويستبيحون آدميتهم ويغتالون براءتهم. الخطباء يحتاجون إلى تدريب ودورات في توجيه الخطب. أنا لست مع توحيد الخطبة ولكن مع الخطوط العريضة لما يمكن أن يكون عناوين ومحاور للخطبة. ولذا المراجعة الدورية وتقييم الخطباء أمر مطلوب من الجهة المختصة بذلك.
الأسر لها دور رئيسي وهم نقطة الانطلاق. المنزل هو الحاضن والذي من المفترض أن الأبناء يقضون الوقت الأطول فيه. انشغل الأباء والأمهات عن أبنائهم وبناتهم وأوكلوا الأمر للسائق والعاملة المنزلية. يخرجون إلى الأسواق أو إلى أي مكان وقد يطول الغياب مع السائق الذي يعتقد الأباء أنه يخفف عنهم ولا يعلمون أنه منفذ من منافذ الخطر. كما أن الأباء مسئولون عن غذاء وكساء أولادهم فهم مسئولون عن مراقبتهم وملاحظة كل التغيرات عليهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم. لا شك أنها مهمة شاقة خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي ولكن الاجتهاد واللقاء الأسري والجو الحميم السليم كفيل بتقليل المخاطر. قد يكون هناك أعداد كبيرة من الأسر تعيش غفلة، ولعله آن الأوان أن يراجع الأباء والأمهات تعاملهم مع أولادهم وطريقة حياتهم خاصة بعد أن فوجئ مجموعة من العائلات السعودية باختفاء أبنائهم وظهورهم في مناطق الصراع حيث قتل العشرات منهم بعد انضمامهم لجماعات إرهابية.
الشركات والمؤسسات لها دور أيضا في مساندة وزارة الخارجية بطريق غير مباشر من خلال استيعاب أعداد كبيرة من الخريجين والخريجات، والسعي بجدية للسعودة الحقيقية وليست الوهمية من البعض. إن هذا يقلل من فرص الإحباط والوقوع في المخاطر من قبل الشباب في حال لم تكن لديهم فرص للتوظيف.
الجمعيات والمؤسسات الخيرية لها أيضا دور في تدريب الشباب والشابات للأسر المحتاجة. لا يكفي أن تعطى الأسر المحتاجة طعاما و شرابا وكساء، ولكن الإسهام في التدريب على مهن معينة تجعل إمكانية خلق أسر منتجة بدلا من أسر محتاجة. إن هذا يقلل من ضياع أبناء وبنات تلك الأسر وانحرافها. وبهذا تسهم الجمعيات الخيرية بشكل غير مباشر مع قطاعات الأمن في تقليل فرص الانحراف وبالتالي الملاحقة من قبل الشرطة.
الأندية الأدبية والرياضية أماكن مناسبة للتوعية بالمخاطر، ولكن ليس بما هي عليه في الوقت الحاضر. تحتاج للمشاركة الفعالة من خلال القادرين من أعضائها من خلال زيارة المدارس والمشاركة في الفعاليات المختلفة في المجتمع. وهي بهذا تسهم في جانب أمن المجتمع. كما أن مقراتها ممكن أن تكون أوعية تحتوي على لقاءات الشباب ليس فقط للممارسات الرياضية والأدبية والثقافية وإنما أيضا الحوارية المسئولة الواعية المنظمة المنضبطة والتي تتضمن توعية وآراء تسهم في أمن المجتمع.
المواطن هو خط الدفاع الأول في الجانب الأمني. تربيته وتعليمه وخلقه وتعامله وحذره هي ركائز أمنية هامة، تنعكس على أمن المجتمع. ورجل الأمن هو الوقاية بإذن الله وهو العلاج والدرع الذي يقوى ويزداد صلابة بتعاون أفراد ومؤسسات المجتمع المختلفة معه. حفظ الله الوطن من كل مكروه.