علي الخزيم
من خلال المناسبات واللقاءات الجماعية اكتشف أحياناً أن هناك أشخاصاً يتمتعون بقدر جيد من الظرف والفكاهة، إلاّ أنهم قد لا يملكون القدر الكافي من إبراز ملكاتهم الإبداعية، إما لسطوة الخجل والحياء عليهم، أو لأنهم يدركون أن بين القوم من لا يستوعب نكاتهم أو قد يُفَسّرها باتجاه آخر؛ لذلك فهم يقتصرون على إمتاع من يثقون بحسّه وفهمه لهم من الأصدقاء المقرّبين، ومن الظرفاء من يكون قد جرّب حظه بإلقاء النكات فلم يفلح بطريقة إيصالها للمتلقي بأسلوب ساخر ضاحك لعدم امتلاكه المهارة الكافية بحسن الإلقاء الجاذب والداعي للضحك، وهم قلة؛ فليس كل ظريف يستطيع إضحاك جلسائه بجدارة، وليس كل جريء يستطيع الإضحاك بلباقة الظرفاء المُهَذّبِين، فهناك خط فارق بين الإضحاك اللطيف المؤدب المتزن وبين السماجة وافتعال الحركات البلهاء المعبّرة عن الحماقة الفارغة من الملاحة، فالظرفاء الحقيقيون هم بضاعة نادرة في أوساط المجتمع، يزيّنون المجالس ويُتْحفون ليالي السمر بطرحهم الخفيف اللطيف المستدعي للابتسامات والضحكات، يُعطِّرون مجالس الأصحاب بجميل نوادرهم وطرائف حكاياتهم المُشبَعة بتلميحات الحكم والمواقف المُتخيّلة التي تأخذ بألباب السُّمّار.
الظرفاء التلقائيون الحقيقيون قد لا يعرفهم سوى المُقرَّبين منهم، لأنهم لا يسعون للشهرة ولا يتصنّعون الفكاهة ولا يرجون وراء ذلك إطراءً أو مديحاً، فهم قد خُلقوا هكذا على سجيتهم بمَلَكَات منحها الله لهم ليكونوا كذلك بخفة دمهم وبساطة قولهم وخيالهم بعيد المدى، بعكس المُسْتَظرِفِين ممن يستجدون الابتسامة للتقرّب إلى الناس لأهداف مختلفة كل بحسب مراميه وغاياته، وفد يكفي أحدهم الشهرة، ومنهم من تجاوزها إلى مواقع التواصل الاجتماعي لمكاسب يجنيها من خلال تقديم نفسه كفكاهي كوميدي، وهؤلاء لا يتلقفهم إلاّ أمثالهم من البسطاء والسذّج، لكنها صنعة لا تلبث أن تفشل ويخسر صاحبها من كل الجوانب، لأن ثقلهم وحماقاتهم لا يمكن أن تُقْبل باستمرار.
ومن تجاربي فإن ما يعجبني قد لا يعجب شخصاً آخر مهما ارتفع مستوى تقديري لمقدم الفكاهة والكاتب الظريف والروائي المرح، فمثلاً قد ضحكت يوماً من قصة رواها المرحوم بإذن الله الدكتور غازي القصيبي حدثت له ولعائلته بمطعم في باريس متخصص بأطباق لحم الأوز، حادثة زاخرة بالمُلَح والنكات الراقية المهذبة كقلب ونفس راويها، فقدمتها ذات يوم لصديق آملاً أن تدخل على نفسه السرور؛ فقرأها وأعادها إليّ دون أن يبتسم فضلاً عن أن يضحك! وعلّق بقوله:(لم أتذوّق الأوز يوماً)! لكني لم أحبط ولم أغيّر موقفي من قصة النبيل القصيبي، لإيماني أن الأذواق تختلف فقد يُضحكه موقف لا يلفت انتباهي، وليس بالضرورة لكونه صديقي أن نضحك معاً.
وبالمناسبة إليكم هذه الطرفة، فهي أيضاً ستعجب البعض دون الآخرين، وهذا منطقي ومعقول، فقد كان لنا جار ظريف سريع البديهة من أهل القصيم، وحدث أن الأهل بعثوا لبيتهم فطائر أعرف أنه يُحبها، ولأني (أمون) عليه، أردت إثارته فسألته (هل أعجبتك، إنها محشوة بحبحر الرس وكراث عنيزة)؟ فرد بخبث: لكنها مطبوخة قبل أن تنشأ الرس وعنيزة! (يقصد أنها بائتة).