د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أتحدث اليوم عن الأواصر الآسرة حين يتحقق مفهوم الإنسانية فوق منصات الجمعيات الخيرية, وحين الوعي الوجداني يتمدد ويحتوي وجيب القلوب, ويحميها من الرحيل القسري عن عمارة الحياة. وتنوعت تلك الجمعيات, وكانت مسمياتها رموزًا ومصطلحات للوصول إلى وجدان الناس, ولا حصر لوشائجها معهم. وصهرت تلك الجمعيات في نشاطاتها أفكارًا من بوتقة أحاسيس المجتمعات المحلية, وزخرت بصور ودلالات وكأنها زخات الغيث فوق حقول منسية حين حولت الأحلام إلى لغة ممهورة, تصور التنمية البشرية المجتمعية عقلاً وروحًا, وتتحرك تلك الجمعيات عبر مستويات وطبقات مستمدة من حقيقة المكان والزمان حتى تقترب من ذاكرة المجتمع النموذجية, ويتحقق في أبوابها ومصارفها التوجيه النبوي الحكيم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، حتى أصبحت تلك الجمعيات مجسات تحمل رموز الانتماء, وتقود إلى جذور الإنسانية؛ فهي فكرة مثالية لتأثيرها وإعلانها الواضح عن الانتماء المحلي المنطلق من الدين ثم الهوية الوطنية, وهي في نظري من الخطابات الوطنية العالية التي يتكئ عليها في مواجهة التشعب والتيه. ولقد نجحت أهداف الجمعيات في ذلك، ونال خطابها المجتمعي مركزًا متقدمًا في بناء وشائج الوطن.
وتقود تلك الجمعيات جزءًا كبيرًا من الإصلاح الاجتماعي من خلال الملاحظة لهدير المجتمعات, وتسبر ما تحت السطح من احتياجات المواطن, وتلمع أنشطتها من خلال انطباعها الحميم, وأفعال الناس. كما أن شهادات وجود تلك الجمعيات في المجتمع مثيرة للدهشة؛ لما جاوبها وجاوبته من خطوات وأصوات سريعة.
تلك الجمعيات استبدلت واقع المجتمعات المحلية إلى واقع حي نامٍ متحرك، يوحي بأفكار ومحتويات جديدة.
فقد بلورت جوهر الخير في نفوس كثير من المتطوعين والمتطوعات إلى مراقي العرض والمشاهدة, فكان لكل جمعية رسالة ورؤية, ومهام وآليات عمل, ونظام داخلي معتمد وفق منطلقات النظام الذي صنعته جهات الاختصاص. وقد حرصت كل جمعية وفق مجتمعها المحلي على ترتيب الموجودات المتاحة؛ حتى لا تتبعثر مناشطها دون هوية ودون مستفيد, ودلف القائمون عليها ينتهجون كل الطرق التي توصل مجتمعاتهم إلى تحقيق التواصل المؤسسي اللافت. وتلك الجمعيات في بلادنا تربة خصبة. ومن خلال برامج تلك الجمعيات في مجال الدعم المجتمعي بأنواعه يمكن للجهة المعنية في وزارة العمل والتنمية الاجتماعية إعادة صياغة استراتيجية التنمية المجتمعية, ووضع الأُطر المشتركة وفق احتياجات المجتمعات المحلية, ومن ثم دعم نماذج التشغيل الخاصة التي تحكمها البيئات والعادات مما لا يمكن للمجتمعات الانسلاخ منها. ولأن هذا النمط من الجمعيات ليس نوعًا قابلاً للتحديد تحديدًا شكليًّا في قوالبها وبرامجها, فإنه من المؤكد أنها تتشارك في الرؤى تجاه المجتمع المحلي, ولكل خصوصيته المطلقة, ومفاتيح الإنتاج فيها. وتلك المحفزات المجتمعية التي تنقل الأعمال الخيرية من بدايات اليوم إلى الغد, وتقف عند محطات تنموية مهمة في المجتمع، يلزمها دعم تحفيزي من نوع آخر من الوزارة المعنية، مثل تقديم النماذج والاستشارات التطويرية لإدارة الإنتاج، من خلال إقامة المؤتمرات التخصصية في المجالات التي يشملها نشاط تلك الجمعيات, واستحداث جائزة وطنية سنوية، تهدف إلى تحفيز واقع الجمعيات، ونشر الوعي المجتمعي بدورها التنموي في المجتمعات المحلية. ولأن تلك الجمعيات تستقطب أعدادًا من المواطنين والمواطنات لتحقيق ممكنات العمل فيها فينبغي الاهتمام بتلك المسارات المهنية في خطط مؤسسات الإعداد الأكاديمي والمهني في الدولة, وأن ينال ذلك اهتمامًا خاصًّا من القائمين على التخطيط التنموي في الوزارات المعنية. وما زالت الجمعيات الخيرية - وسوف تظل بتوفيق الله عز وجل - أكثر ثراء وخصبًا، وتحمل في أهدافها إشارات كريمة معطاءة، يثمر نخيلها بإصرار واستبسال.