د.عبدالله مناع
كانت رئاسات التحرير.. في صحافتنا في بداياتها الأولى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.. وقفاً على الأدباء والشعراء والكتاب.. فالأديب (الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود خوجة): كان أول رئيس تحرير لصحيفة (أم القرى) الرسمية.. والأديب الشاعر الأستاذ عبدالوهاب آشي: كان أول رئيس لتحرير صحيفة (صوت الحجاز) الأهلية، ولم يتبدل الحال.. في الأربعينيات إلى أوائل الخمسينيات، إذ: ظل.. على ما هو عليه.. بل وأخذ هؤلاء الأدباء والشعراء، يتولون وحدهم إصدار الصحف والمجلات الأسبوعية أو الشهرية كـ(الأستاذين علي وعثمان حافظ) في إصدارهما لجريدة (المدينة) الأسبوعية.. والأستاذ عبدالقدوس الأنصاري لمجلته الشهرية (المنهل).. والأستاذ (عبدالكريم الجهيمان) قبل ذلك أو بعده في إصداره لصحيفة (أخبار الظهران) الأسبوعية.. فالأستاذان الأديبان والشاعران: (حمد الجاسر) في إصداره لمجلته (اليمامة) الأسبوعية، و(عبدالله بن خميس) في إصداره لمجلته الشهرية (الجزيرة).. التي تطورت عبر السنين.. حتى أصبحت هي صحيفتنا اليومية هذه، لكن مع منتصف الخمسينيات ظهر أكثر من تغير أو تطور.. في صورة هؤلاء الذين يشغلون منصب رئاسة التحرير.. بتولي غير الأدباء والشعراء رئاسة تحرير الصحف والمجلات أو إصدارها.. كالصحفي -موهبة- الأستاذ حسن عبدالحي قزاز بإصداره وترؤسه لتحرير صحيفة (عرفات) الأسبوعية، والأستاذ عبدالعزيز مؤمنة بإصداره وترؤسه لتحرير صحيفته التجارية (الأسبوع)، والأستاذ محمد سعيد باعشن، بإصداره وترؤسه لتحرير صحيفة (الأضواء) الأسبوعية، والأستاذ عبدالفتاح أبو مدين بإصداره وترؤسه لتحرير مجلة فصحيفة (الرائد) الأسبوعية.. ليأتي نظام المؤسسات الصحفية، وتتحول معه معظم صحف الأمس (الفردية).. إلى صحف تصدر عن مؤسسات صحفية معنية بإصدار الصحف والمجلات، وهو ما فتح الباب بصورة أوسع.. لغير فئات الأدباء والشعراء.. فكان طبيعياً أن يكون أول هذه الفئات الأخرى: (الدبلوماسيون) المعنيون والعارفون بـ(السياسة) وأخبارها وأحوالها وتقلباتها.. فـ(الصحافة) هي في البداية والنهاية (سياسة)؟!
* * *
لقد شاءت الصدف وحدها.. أن يقال الأستاذ محمد علي حافظ من منصبه كـ(رئيس تحرير) للمدينة.. ليجري البحث عن خلف له، فكان أن اتجهت أنظار أعضاء المؤسسة إلى وزارة الخارجية ومجتمعها (الدبلوماسي).. بحثاً عمن يخلفه، لكن وقبل أن يذهبوا إلى (الخارجية).. كان هناك من يذكرهم بأن هناك كاتباً شاباً ومعلقاً سياسياً من الطراز الأول.. كان يكتب في صحيفة (عرفات) الأسبوعية ثم انتقل مع دمجها بصحيفة (البلاد السعودية).. والتي أصبح اسمها: (البلاد).. إلى الكتابة فيها يومياً، وأنه يعمل بـ(وزارة الخارجية).. وأن اسمه محمد عبدالقادر علاقي، ليجري الاتصال به والتفاوض معه.. ومن ثم استعارة خدماته من (الخارجية) للعمل رئيساً لتحرير جريدة المدينة.. ليكون أول رئيس تحرير لصحيفة يومية.. من السلك (الدبلوماسي)، لأتعرف عليه من موقعه الجديد هذا.. بحكم علاقتي بـ(الصحيفة) آنذاك.. لأجد فيه تلك الشخصية الجذابة اللافتة التي أسعدتني معرفتها: ثقافياً واجتماعياً وإنسانياً.. فهو قارئ نهم، وكاتب موضوعي دقيق.. يتحلى بـ(واقعية) سياسية كانت تثيرني، ولكنه كان على حق.. وكنت على غير ذلك، إلى جانب ظرفه الشخصي.. وروح النكتة التي لا تفارقه ولا تفارق مجلسه، الذي كان يتسع كل أسبوع لأصدقائه الكثر.. حديثاً وطعاماً إلى منتصف الليل..؟!
وقد كان من حسن الحظ أن ترافقت معه في الأيام الأولى من معرفتي به.. في (أول) رحلة أقوم بها لـ(بريطانيا) لمتابعة انتخاباتها العامة، التي جاءت آنذاك بـ(ثالث) أشهر الزعامات البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية: الزعيم العمالي الكبير (هارولد ويلسون).. حيث رأينا معاً أوجه بريطانيا الثلاثة: السياسي والتجاري الصناعي والثقافي بزيارتنا لمدينة (إستاتفورد).. مدينة كاتبها المسرحي التاريخي الأشهر (وليم شكسبير)، لتتوثق علاقتي به أكثر وأكثر بعد عودتنا من تلك الرحلة الرائعة.. وبعد عودته إلى الخارجية بعد عام، فقد كان ذلك شرطه لقبول رئاسة تحرير الجريدة.. وكانت تلك هي (واقعيته) التي أراها لأول مرة، ليبدأ مع الخارجية.. تنقلاته الدبلوماسية بين سفارات المملكة: من سويسرا إلى كوريا الجنوبية.. إلى أن اختتم حياته الوظيفية سفيراً في (كوريا الجنوبية) فـ(اليمن الجنوبي).. إلا أن أجمل سنواته الوظيفية كانت عندما كان قنصلاً عاماً في مدينة (لوزان) السويسرية الجبلية الساحرة، والمطلة على بحيرة (ليمان).. لسنوات عديدة والتي عرفني بها، وهو ما جعلني أسأله في أوائل سنوات تقاعده: إن كان قد اقتنى (بيتاً).. هناك؟ لتصدمني واقعيته.. ثانية، عندما قال لي بأنه لم يقتن بيتاً هناك.. لأن تكاليف إقامته بأي فندق من فنادقها الجميلة التي يعرفها.. إذا ذهب إلى هناك في سياحتي (لوزان) الصيفية أو الشتوية.. ستكون أقل بكثير من تحمل دفع الضرائب السويسرية السنوية الباهظة التي عليه أن يدفعها إذا تملك بيتاً.. مؤثراً العيش سعيداً بين ابنه وبنتيه وأصدقائه الكثر.. بين جدة وجيزان ومكة والمدينة، فإذا طال انقطاعه.. هاتفته: أين أنت يا أبا هشام..؟
أجابني.. ضاحكاً ساخراً: مشغول..!!
- مشغول.. بـ(إيه)..؟
- بتحصيل (إيجارات) العمارة..!
لتفرقع بعدها ضحكته الجميلة الساخرة!! لكن الذي لم أنسه من تلك الأيام.. ومن تلك الأحاديث الكثيرة معه.. عندما قلت له ذات يوم: إن كثيرين من الوزراء والسفراء يفضلون قضاء سنوات تقاعدهم في (سويسرا) الجميلة التي تعرفها حق المعرفة.. ألا تفكر مثلهم؟ ليجيبني: وماذا أفعل هناك..؟
- ترى الدنيا.. وتعيشها؟
- سأفعل ذلك.. ليوم.. لأسبوع.. لشهر.. لشهرين، ثم ماذا بعد ذلك؟! سيلاحقني السأم.. حتماً بعدها..!!
فلم أجد ما أعقب به عليه.. فقد كان (أبا هشام) بحق أستاذاً من أساتذة الواقعية السياسية والحياتية..؟!
* * *
لقد كان (ثاني) هؤلاء الدبلوماسيين الذين استنجدت بهم (الصحافة) في مراتبها العليا.. هو نجم أمسيات (الثلوثية) الضاحك بطرائفه وقفشاته و(قوائمه) التي لا حصر لها، والذي أسمته صحيفة الرياض -وهي تؤبنه- بـ(فاكهة الصحافة).. الأستاذ (رضا لاري)، الذي ترأس أولاً تحرير (صحيفة عكاظ).. في وزارة الفريق الشاعر.. فجعل منها صحيفة منافسة على الصف الأول بين أقرانها.. إلا أنه لم ينج من حساسيات (الفريق).. ليقيله بعد سنوات ويذهب إلى بيته، ليعيده ثاني وزراء الثقافة والإعلام الأستاذ إياد مدني.. إلى مؤسسة عكاظ ثانية ولكن ليرأس تحرير صحيفتها الإنجليزية اليومية (سعودي جازيت) لسنوات، ليتم إسناد الإدارة العامة للمؤسسة له، ليجمع -في شخصه- بين التحرير والإدارة.. لكن الظروف لم تواته، ليقدم استقالته.. ويعود إلى بيته، وقلمه وكتابة مقاله الأسبوعي (مع الأحداث).. لنشره في صحيفة (الرياض)، ثم في (المدينة).. إلى أن وافاه الأجل لتفقد (الصحافة) واحداً من أجمل شخصياتها، و(طبقاً) من أجمل الأطباق على مائدتها..!!
* * *
أما (ثالث) هؤلاء الدبلوماسيين.. الذين استعانت بهم الصحافة فهو الأديب والمنظر الممتع في أفكاره وطروحاته.. صاحب نظرية (الخلل التركيبي) لذي يعاني منه العالم العربي الأستاذ عبداللطيف ميمني، الذي استعانت به (مؤسسة عكاظ) للعمل رئيساً لتحرير (سعودي جازيت).. قبل الأستاذ اللاري، ولكنه لم يطل كثيراً.. بعد أن أعادته الخارجية إلى ملاكها.. للعمل سفيراً للمملكة في (طهران)، ولكنه لم ينس سنواته القليلة في سعودي جازيت، والعلاقات الصحفية والإنسانية التي أقامها مع أولئك الذين عمل معهم في الصحيفة، فكان يحرص في إجازاته السنوية على زيارة رئيس تحرير سعودي جازيت وأسرة تحريرها.. حيث كان الأستاذ اللاري رئيساً لتحريرها أيام أن كان الأستاذ إياد مدني مديراً عاماً لمؤسسة عكاظ.. فسأله على الهاتف: كيف يمكن لي أن أرى الأستاذ رضا لاري؟ وما هي مواعيد تواجده.. في مكتبه؟
فقال له الأستاذ إياد: إن استطعت!! فهو يأتي إلى المكتب في الثانية عشرة ظهراً.. ويغادره في الثانية عشرة إلا ربعاً..!!
إلا أنه كان يحرص على ارتياد أمسيات (الثلوثية).. حيث كان حضورها يحاصرونه بالأسئلة عن (إيران) وما يجري في داخلها من صراعات بين أطراف السلطة؟
فكان يقدم قراءة موضوعية.. عن تلك الخلافات بين (الباستيج) و(الحرس الثوري)، وهو ما ظهر -فيما بعد- جلياً على أرض الواقع.. مؤكداً قدرته على قراءة الواقع الإيراني، الذي جنت من ورائه العلاقات السعودية الإيرانية.. أفضل النتائج، ليتقاعد بعدها.. ويؤثر البقاء في مكة المكرمة بجوار الحرم.. إلى أن أدركه أجله بعد أسبوعين من رحيل زميله وصديقه الأستاذ محمد عبدالقادر علاقي.. في الثاني من شهر محرم الماضي، وهو ما يتوجب الاعتذار مني للصديقين.. عن تأخر هذا التأبين.. كل هذا الوقت، ولكن.. وكما قال ذلك المثل: (أن تأتي متأخراً.. خيراً من أن لا تأتي)..؟
فـ(وداعاً) دبلوماسيا (الصحافة)..