يقول المثل: «عِشْ رجباً ترَ عجباً».
قبل بضعة أيام، انتخب الأمريكيون دونالد ترامب ليكون الرئيس القادم للولايات المتحدة الأمريكية، وقبل بضعة أشهر صوّت البريطانيون فأقروا خروج دولتهم من الاتحاد الأوربي، وقبل بضع سنوات وقعت أحداث الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. وفي كل مرة، يأتي الحدث بما لا يتفق مع المتصوَر، أو المتوقع، أو المألوف؛ فيكون مفاجأة كبيرة للجميع، بمن في ذلك الدارسون، والمحللون، ومراكز استطلاع الرأي العام، والقيادات السياسية والاجتماعية في البلاد المذكورة، أي مَن نعدهم النخب المعتبرة فيها.
ودون الخوض في التفاصيل، يمكن القول إن الأسباب التي هيأت لتحقّق هذه الأحداث التي فاجأت الجميع، ووقعت عليهم وقوع الصاعقة، تكمن في نشوء حالات من عدم الرضى الشديد في أوساطٍ مؤثرة، ولكنها مغيبة، في المجتمع، وفي الوقت ذاته جنوح النخب إلى إهمال هذه الأوساط، أو عدم استيعاب حقيقة أهميتها، أو قوة تأثيرها، أو قرب تحركها؛ فآثرت الركون للسياق المألوف، وأخذت بالفرضيات المعتادة، وساقت المفارقات الكفيلة بتأكيد القناعات، ونفي الشكوك. وإلا فكيف نفسّر قول الرئيس براك أوباما، عشية يوم الانتخابات، بأن المرشح دونالد ترامب غير أهل للرئاسة وغير مؤتمن على امتلاك سر استعمال السلاح النووي؟ وكيف نفسّر وعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإقامة استفتاء على دوام عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه، وبعد هذا إقامته الاستفتاء، رغم أنه ما كان ملزماً قانوناً، أو دستوراً، بذلك؟ وكيف نفسّر أقوال قادة دول الربيع العربي، وأفعالهم، عشيّة قيام الأحداث في بلادهم لو كانوا على دراية بحقيقة أبعادها؟
تمرُّ الدول بين الفينة والأخرى بتحوّلات كبيرة ومؤثّرة؛ اقتصادية أو تقنية أو ثقافية أو اجتماعية، أو كل هذه مجتمعة؛ فيكون لها أثرٌ كبيرٌ على السياق المألوف، وتختار النخب تجاهل هذه الآثار، رغم أنها قد تكون ماثلةً أمام أعينها، واضحةً وضوح الشمس لها، لو هي أحكمت النظر إليها، وخرجت من الفقاعة التي تحيط بها، فحالت دون إبصارها لها.
فالنخب، فيما يبدو، لا تنشد الرأي المخالف لتصوراتها، ولا توليه اهتمامها، ولا تتأمل فيه، حتى تقع المفاجأة، ويحدث ما لم يكن في الحسبان. ويبدو أن فعل هذا، أي طلب الرأي الآخر، والإنصات للقول المخالف، يحتاج إلى ثاقبِ بصيرة، حري ريادة، واثق خطى، لا يستكفي بما يأنس إليه، ولا يؤخذ على حين غِرّة، ولا يتوه عن بر الأمان. وفي تاريخنا القريب والبعيد بضعةٌ مثل هذا، وكثرٌ مثل سواه.
- د. زياد السديري