د.فوزية أبو خالد
تأتيني أسئلة صحفية في مواضيع لا ناقة لنا فيها ولا جمل، أو على الأقل لن يقدّم رأينا المحلي فيها أو يؤخّر بينما لا نستطيع عن عمد أو خلل أن نشخّص أوضاعنا المعقدة ونصل فيها لرأي يبحث لنا فيها عن وقاية أو شفاء.. من تلك الأسئلة ما يسأل عن أسباب سقوط مرشحة الرئاسة هيلاري كلينتون ونجاح مرشح الرئاسة ترامب؟ لا شك أن مثل تلك الأسئلة بالمطلق لا تخلو من أهمية فكرية وسياسية ولكن على ألا تكون مجرد وسيلة لتجنب مواجهة الأسئلة الجذرية الخاصة بأحوالنا الصاعقة.
فلا أظن أن كاتبًا عربيًا قد واجه منذ نشأت كتابة الرأي الصحفية تحدياً مركباً بمثل هذا التعقيد الذي نواجهه اليوم لقول كلمة مستقلة نزيهة في عالم ملطخ بالدماء وسلطة الاتباع, ولتحري بصيص لكلمة مضيئة في مثل هذا الضباب الكثيف, وللبحث عن ما يشبه كلمة سلام وسط هباء الحروب كمحاولة وإن يائسة لالتقاط ضحكة مكسورة من بقايا طفل, انتشال دفتر ممزّق من بقايا مدرسة أو إنقاذ امرأة حامل من بقايا أسرة. فوسط هذا الحريق البواح من الحروب التي تلاحق المنطقة لتحرمها من حلم الحرية واللقمة الحلال أسوأ ما يحدث هو انعدام الرؤية. صحيح كانت حرية التعبير محاربة في أزمنة طويلة متعددة عبر التاريخ العربي المعاصر لكن ذلك لم يكن يستطيع مصادرة القدرة على التفكير والبصر بحد ذاتها.
لا أظن الخراب الذي رأيناه في العراق وفي سوريا قد طال الحجر والبشر يمر اليوم دون أن ينال بلا هوادة من الفكر والخيال ومن أحلام الصحو والمنام ومن شرارة الأمل على امتداد المنطقة. وهذا هو الألم الذي يعتصر عقلي ووجداني وأنا أحاول كتابة هذا المقال ولا أعرف بعد عمري المعمر في الكتابة كيف أعبر عنه.
وإن كان المتابع سيجد بطبيعة الحال أن لكل عقد تحدياته التي لا بد أن كاتب الرأي يجد نفسه في مواجهة شرسة للحفاظ فيه على الخطوط العامة للمبادئ الإنسانية الأساسية في وجه مراوغة التحولات السريعة الزئبقية للمشهد السياسي. وبما أن ذلك التحدي قد بدأ كما سجله الكواكبي ومحمد عبدو وجمال الدين الأفغاني والبستاني وشميل والمهجرين في الهزيع الأول من عصر حلم النهضة العربية واستمر كما سجله زريق والخولي وفؤاد زكريا وكمال أبو المجد وعبدالوهاب المسيري والرميحي وبركات والشرابي.. غيث .. نعيم .. الجابري.... إلخ ... إلى ما بعد الهزيع الأخير من نهاية ذلك الحلم, فإنه لن يسعني إلا اختيار البداية من مكان ما وليكن بداية معاصرتي للمشهد السياسي ولكتابات الرأي به.
في السبعينات الميلادية كانت الصورة واضحة الصراع العربي الإسرائيلي, الهيمنة الإمبريالية على منابع النفط ومناطق النفوذ, المواجهة بين التخلف والتنمية.
في الثمانينات تساوى استتباب العسكر باستباب الملكيات بعد مآلات الثورة الإيرانية إلى دولة طائفية أحادية تصفوية وتفرّق دم المقاومة في الصراع العربي الإسرائيلي وفلسطينياً تحديداً بين الأنظمة العربية,وقيام البؤرة الأفغانية لامتصاص فائض التمرّد الشبابي بالعالم العربي والإسلامي... ومراوحة التنمية بين النكوص واللا تكافؤ .
في التسعينات جاءت حرب الخليج الثانية لتفرض تحدياً جديداً من نوعه على الخيارات المعتادة المحسومة تحت تلك العناوين الفضفاضة للتحولات... الوحدة... القومية.. الأمة الخالدة ..... إلخ. كما كانت التسعينات سجالاً بين الانكفاء والخروج بوجل على مسلمات التسيس الديني والاكتواء بأدوات الأحادية والتحيز.
أما بداية الألفية الثالثة فقد كانت البداية لنسف المنطقة ومعادلاتها السياسية المستتبة باستسلاماتها ومسلماتها التي وعينا عليها وجدل التحولات المتعارف عليه لتخلق تحدياً باقتراب نهاية العقد الثاني منها يختلف نوعياً عمّا سبقه على مستوى الوجود والفكر والخيال وليس على المستوى السياسي وحسب. هذا بطبيعة الحال اختصار مخل لمد وجزر تحولات تلك المراحل عربياً أكثر منه سعودياً.
إلا أنه بقدر اتساع الفضاء لأجنحة الكلمة وبخاصة الفضاء التقني مع تصاعد وتيرة الحدث في العقد الثاني من مرحلة الألفية الثالثة , بقدر ما صارت تحك جماجمنا مضائق الرؤية ولجة عماء البصائر وتمزّق بوصلة الفكر الرشيد في متاهة الهوى السياسي وميول الأيدولوجيا وتحول أمرنا بأيد كثيرة سوانا. ولن أتحدث عن مصادرة المقالات التساؤلية ورقياً في دولنا العربية فمعاناة حجبها جزء من غيوم اللجة وتخوفاتها الغامضة حتى من الكلام الواضح ومن حق مساءلة المواطن للمسؤول الذي لا يقل تبلبلباً وحرصاً عنا إلى أين نحن ذاهبون.
أشعر أحياناً أنه ربما نجد شبه مخرج وليس حلاً بأن تتداعى قلة والأفضل كثرة من قوى فكر عقلاني, مجرد مواطنين يحاولون التفكير بشيء من الرشد عبر مؤتمر أو لقاء أو اجتماع على مستوى وطني عربي إقليمي لمجرد إطلاق عنان الخيال في مآلات المنطقة المرعبة والبحث عن ريشة أو قطرة ماء تقف في وجه هذا الخراب الذي تجره الحروب على المنطقة. تبدو لي الفكرة طفولية مثل اليسار الطفولي وأنا أتابع أخبار أو حتى أحضر وإن صرت نادراً ما أفعل مؤتمرات ولقاءات لا تعمل على أكثر من تهيئ موائد فارهة أو متواضعة لعلج نفس الرطانة المبهمة التي صارت تتقاسمها النخب الرسمية والمجتمعية معاً.
أتابع منتديات يعاقبني بعضها ويعاتبني بعضها لمتابعتها بالقراءة فقط دون كتابة أو تعليق... وليس إحجامي تمنعاً بقدر ما هو ذهول من قدرتنا على الأمل وسط حريق الحروب أو قدرتنا على اليأس وسط المخاضات... فلا أدري كيف أشارك في نقاش عن نوعيات الكيك فيما ليس من قطرة طحين لرغيف خبز أو كيف أدخل في حياد سلبي أو إيجابي من ضياع اللبن والبن والنفط والقطن في الربيع والصيف معاً.
لا أقلل من شأن الاهتمامات التي يتناولها الكثير من كتّاب الرأي أو الأكاديميين أو المثقفين أو الناس العاديين مثلي.. ولكنني بصراحة أشعر أننا نتناول الكثير من الشؤون والشجون... قضايا الطائفية.. الإرهاب... الإسلام السياسي... الليبرالية... التشدد... الغلاء.. التأمين الصحي ... الإعلام والإعلام المضاد... المحافظون الجدد.. الشرق أوسط الكبير.. دخول روسيا على الخط.. سقوط هيلاري.. نجاح ترامب.. عناوين ضخمة لمحتوى متواضع... دون أي قدرة حقيقية على التعبير عن حقيقة واتجاه ما يجري إلا بكلمات متقاطعة تشي بتمسكنا تمسك الغريق بقشة القلق على خوف من راحة اليأس الأبدية . والقليل من القول ما يستطيع التعبير عن هواجس الأخطار المحدقة والمتحققة على أرض الواقع مما يعصف بقدر المنطقة الوجودي والسياسي والفكري . إننا كمن ينتشر سرطان تحت جلده بينما ينشغل بتخيّر ملابس يخالها للسهرة وهي في الحقيقة ليست إلا للسترة التي يمنحها الكفن للميت. والأنكى أنها لسترة حالنا عنا بينما هو مفضوح ومباح للآخرين.
افتتاحيات في الصفحات الأولى في الصحف العربية بمستوياتها وتوجهاتها المختلفة نادراً ما تقول شيئاً يتجاوز تطمينات تنم عن سكوت على قلق عميق . مقالات لكتّاب كبار وشباب أيضاً نادراً ما تقول شيئاً مثل ما أفعل الآن إلا إثارة وساوس الأسئلة. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا بصيرة رؤيته. فخارج تنظيرات متبلبلة وأسئلة تستحي من التصريح بحيرتها وحزنها وقلقها ووجعها وخجلها لا بد من مواطنين ومواطنات يجترؤون الرشد أو يلتمسون قبساً له.