د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
القضايا التنموية - سواء تلك التي مررنا بها أو التي سنمرّ بها - تتعثّر أو قد تفشل في مرحلة التخطيط، إذا أصرّ المعترضون عليها أو المتخوفون من محاذيرها وآثارها السلبية - التي قد تكون حقيقية أو متوهّمة - على اشتراط وجود بيئة أوظروف ملائمة أولاً. أي أن هذا اعتراض على التطبيق لا المبدأ، لكنه وسيلة (لزحلقة) القضية برمّتها لكونه مثل وضع العربة أمام الحصان. ولا يوجد داعٍ لذلك عندما يتغلّب النظر الموضوعي للقضية نفسها، فتكون الأولوية للنظر إلى جدواها ونتائجها الإيجابية الملبّية للمصلحة العامة، فإن كانت واضحة لأصحاب القرار، توضع في صلب القرار التنفيذي أو التنظيمي الآليات والضوابط الكفيلة بالتغلب على ما قد يصاحب أو ينتج عن التطبيق من جوانب سلبية. وقد أثار الانتباه في الآونة الأخيرة ما أحاط بموضوع البيئة الملائمة لقيادة المرأة للسيارة ورفض توصية ببحثه تحت قبة المجلس. الفريق المؤيد لها تتمثّل دوافعهم في أنهم يريدون من وراء البحث الوصول لتأكيد الرأي القائل: إن الظروف الحاضرة غير ملائمة للسماح بقيادة المرأة، بعد أن أدركوا أنه لا يوجد مانع شرعي من ممارسة هذا الحق. ويعرف هؤلاء بالضرورة أن البحث سيطول، وربما يتطلّب تشكيل فريق من الباحثين لدراسة الموضوع، وعندما ينتهي البحث يطالب المجلس بتوفير هذه الظروف أولا قبل إقرار هذا الحق، وهذا ما يدفع المعترضين إلى رفض التوصية، لأنها تعني تعطيل المطالبة بحق المرأة في قيادة السيارة أعواماً عديدة، في حين أنهم يرون إقرار هذا الحق أولاً، وفي اعتبارهم أن القرار الصادر بالموافقة سيتضمن الترتيبات والضوابط والشروط التي توفّر البيئة الملائمة، ولاسيّما أن عناصر هذه البيئة والظروف الملائمة معروفة أصلا، وأن المتحفظين على السماح بقيادة المرأة لم يألوا جهداً في ترديد ما يعتبرونه محاذير أو ظروفاً غير مناسبة، ولهذا فإنه لا حاجة لإعادة البحث من جديد لأنه عودة إلى نقطة الصفر. وقد أصاب المعترضون على التوصية - في رأيى - لأنها تشبه وضع العربة أمام الحصان. ومن اللافت للنظر أن من المؤيدين لبحث البيئة الملائمة من رفض سابقاً اقتراحاً بإصدار نظام لمكافحة التحرش بالنساء بحجة أنه يشرعن للاختلاط، مع أنه يعتبر من أهمّ عناصر توفير البيئة الملائمة. وفي سياق مشابه نطالع في جريدة الحياة (السبت 5-2-1438هـ) مثالاً آخر لوضع العربة أمام الحصان، إذ رفضت اللجنة الصحية بمجلس الشورى توصيبالإسراع في تطبيق التأمين الصحي على المواطنين. وقد عبّر عضو المجلس الدكتور فهد بن جمعة - حسب الجريدة - عن مخاوفه من أن تئد اللجنة تطبيق التأمين على المواطنين بحجة خصخصة الخدمات الصحية أولاً. وفي رأيى أنه إذا كان رفض اللجنة للإسراع في التطبيق هو تأجيله لحين تطبيق خصخصة الخدمات الصحية وفق ما ورد في رؤية 2030، فإنها لا تئد التأمين الصحي فقط، بل تئد الخصخصة قبل كل شيء. ذلك أن خصخصة أي مستشفى - على سبيل المثال - لا تنجح إلا بتحصيل عوائد ممّا يدفعه المستفيدون تغطي تكاليفه مع الربح، وهذا الدفع لا يستطيعه إلا النزر القليل من المستفيدين، إذا لم يكن يغطيهم التأمين، ما عدا ذلك فإن هذا المستشفى (وغيره طبعاً من المرافق التي تشملها الخصخصة) سيعتمد على قيام الدولة بالدفع مباشرة، إما عن طريق دفع تكلفة الخدمة أو عقود تشغيل - كما كان الحال سابقاً. وكلا الأسلوبين سيكون باهظ التكاليف ومرهقاً لموارد الدولة وغير عملي، وسيُصرف معظم عمل وزارة الصحة والجهات الصحية الحكومية الأخرى على أعمال محاسبية ونزاعات مع المرافق الصحية المخصخصة. (وقد أوضحت في مقال سابق بصحيفة الجزيرة بتاريخ 19-12-1437هـ تفاصيل عما اقترحه تحت عنوان: بدون تأمين صحي لا خصخصة). ولو توجهنا بالنظر إلى قضية أخرى من قضايا التنمية، هي التوسع في استخدام التقنية المعلوماتية الحديثة والخدمات الإلكترونية، حيث انطلقت كالحصان الجامح بدون توقف أو اعتراض من أحد، لأنها وسيلة تخدم الإنسان وتريحه - سواءً في الحياة الخاصة أو العامة - ولننظر مثلاً إلى الجوال وإلى خدمات الحجز والجوازات والبنوك.. وغيرها وكذلك في الصناعات الآلية لكننا سنجد أنها في بعض آثارها السلبية لم تجد - في بلاد العالم قاطبة - الاهتمام الجديّ الكافي، وأخص بالذات مسألة البطالة التي قد تصيب الكبار عندما تسرّح المصالح الحكومية والشركات بعضهم، أو تصيب الشباب عندما تضيق فرص العمل أمامهم بسبب الاكتفاء بالعمل الآلي الأسرع والأدق والأقل تكلفة. وحيث إن بلادنا في أول الطريق إلى (المكننة)، وأننا لا يمكن ولا نريد عكس هذا الاتجاه الصحيح، فإن الموضوع جدير فعلاً بأن يتبنّى مجلس الشورى المطالبة بدراسة عملية وعميقة للوسائل الكفيلة بامتصاص هذا الأثر السلبي للتطور التقني، ما دمنا الآن نجتهد في إيجاد الحلول لمشكلة البطالة، والأصل في التطور التنموي البناء ألا نعيقه بالمخاوف والتوجسات، بل نبنيعهالآليات التي تنظم تطبيقه وتحجّم مضارّه.