د. زايد الحارثي
لقد أصبح واضحًا جليًّا في عالم اليوم أن أهم عوامل النجاح في الحياة بالنسبة للفرد أو المجتمع هو التعليم، فقد ثبت أن الفرد المتعلم الواعي أقدر على التبصر بنفسه وبمن حوله، فيما يتعلق بأمور حياته المعيشية، وأمور من حوله، بل أقدر كذلك على مواجهة مشاكل الحياة، أو الصعوبات والتغلب عليها. كما أن الشخص المتعلم أقدر على معرفة الوسائل والطرق للتواصل مع الآخرين، وأقدر على الوصول إلى تحقيق أهدافه في الحياة. وبالنظر إلى الشرائع الإلهية، وأولها شريعتنا الإسلامية السمحاء، نجد دعوة صريحة للتعلم، ممثلة بشكل رمزي في معلم البشرية الأول وهادي الإنسانية خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي نزل عليه القرآن بدعوة للقراءة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. والقراءة هي المدخل الرئيس للتعلُّم، وكذلك العلم. وقد تعلم الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - أصول دينهم ودنياهم كما ورد من النبي والرسول - عليه أفضل الصلاة والتسليم - المعلم والمربي. وكذلك فعل التابعون وتابعو التابعين حتى أصبحوا في كثير من المجالات علماء وقدوة لمن حولهم، وسادة للحضارة الإسلامية بالعلم وبالقدوة التي أتت من العلم والبصيرة، وبرز علماء مسلمون كثيرون في فروع الحياة وعلومها المختلفة، ومنها الرياضيات والفلك والطب، وغيرها، بل درست كتبهم، مثل كتاب الطب لابن سيناء، سنين عديدة في المعاهد والجامعات الأوروبية.
والقرآن الكريم دستورنا ومرشدنا في الحياة يُبرز أهمية العلم والعلماء في الحياة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، وغيرها. والحضارات الغربية القائمة إنما قامت على التعليم والعلم؛ فاختفت الأمية تقريبًا من بين أفراد هذه الحضارات، الذين اعتمدوا على أنفسهم، وعرفوا كيف يتكسبون ويمتهنون المهن المناسبة والمفيدة لرفعة أوطانهم، وأنتجوا ما ينفعهم، ويزيد من دخلهم، وساعدهم ذلك على تسهيل أمور حياتهم من وسائل ترفيهية وتكنولوجية، وجاءت الصناعات الحديثة والمتطورة بأعلى ما يمكن تخيله من سيارات وطائرات ووسائل اتصالات متنوعة، بل حتى أدوات الفحص والعلاج؛ لتستفيد منها شعوبهم والبشرية جمعاء. وفي المقابل، تخلفت الشعوب والأفراد المحرومة من العلم والتعليم، التي أصبحت تعتمد على ما ينتجه الآخرون، وتفشت بين أفراد وجماعات هذه الشعوب الأمراض والفقر والضعف، وهكذا تم تصنيف العالم في عصرنا الحاضر إلى: العالم الأول، والعالم الثاني، والعالم الثالث. وأغلب معايير التصنيف تأتي بناء على الإنتاج والثروة المبنية على العلم والتكنولوجيا.
وقد آمنت بعض الدول المصنفة بالدول النامية (المتخلفة) بأن السبيل الوحيد للخروج من هذه الدائرة هو العلم والتعليم المبني على المعرفة والبصيرة، التي تقود إلى الإبداع والابتكار، وليس التعليم المبني على الحفظ والترديد؛ فخرجت دول مثل اليابان، وكوريا، وسنغافورة، وماليزيا من تلك الدائرة بعد أن كانت تقبع في داخلها، حتى كان الفقر يضرب أطنابه فيها، فاحتفظت لنفسها بإرادة وإصرار، ومن ثم عن طريق التعليم والمعرفة بمكانة كبيرة في الصف الأول، وبعد أن كانت دولاً تعتمد على الزراعة والمنتجات الأولية في حياتها واقتصادها أرسلت البعثات بمئات الألوف للدول المتقدمة، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا؛ ليتعلموا العلوم المهمة والمفيدة، وانعكس ذلك بشكل مباشر على تطور أوضاعها وتحسين حياتها المعيشية، بل أصبح العالم اليوم يستورد منها السيارات ووسائل التدفئة الحديثة والصناعات المختلفة؛ ما يشير إلى اكتفائها الذاتي اقتصاديًّا، بل قدرتها على منافسة الدول التي تعلمت منها واعتمدت عليها لعقود من الزمن. وقد كان أحد شعارات هذه الدول للخروج من تخلفها هو (ازرع تعليمًا قويًّا ينتج اقتصادًا قويًّا)، كما قال مهاتير محمد رائد ماليزيا الحديثة. ولنا في الدروس والعِبر من حضارتنا الإسلامية في عصرها الذهبي، أو دول العالم الأول في القرون الأخيرة، أو دول النمور الآسيوية.. نبراس وخارطة طريق ومنهج لدولنا التي لا تزال تعتمد على الآخرين في معظم احتياجاتها وصناعاتها ونهضتها. ولماليزيا قصة جديرة بالتوقف عندها للاستبصار والاعتبار في مجال الاستثمار في التربية والتعليم، وهذا ما سأعرض له - بمشيئة الله - في الحديث القادم.