رمضان جريدي العنزي
البارحة خرجت من بوابة الفندق الصغير في تلك المدينة الشمالية النائية، وجدت نفسي في وسط الشارع حيث الازدحام والتعرق وأبواق السيارات المتشابكة، شعرت بالشمس كأنها تمسك بشعري وجبيني.
لم أكن أعرف أن هذه المدينة الشمالية قد كبرت الآن، وأنها أصبحت تعج بكل هذه القوافل من الناس والسيارات والشاحنات، عبرت الشوارع، ألمح الوجوه المجبولة بالشمس والبنايات والأرصفة والأشياء، وأتحد مع الذكريات، عدت ثلاثين، أربعين عاماً إلى الوراء، كنت طفلاً لا يعرف من الدنيا سوى الليل والنهار والملاعب.
أذكر ذات صباح في يوم صيفي، استفقت على بكاء وضجيج لجارنا الطفل الذي رفض الذهاب إلى المدرسة، لأنه لا يحبها، وكيف أن أمه ركضت إليه فغمرته ثم ربتت على كتفيه، همست في أذنه طويلاً، ثم رضي وذهب، الآن هو محاضر في إحدى جامعاتنا العريقة، فاعل اجتماعي ومدرب.
الصور أمامي تتراءى كوميض برق.
أذكر شخصاً مهزوماً يملك كل شيء ولا يملك شيئاً، يملك المال والصحة والبدن لكنه يفتقد أشياء كثيرة، إنه يفتقد العاطفة والحس والرحمة والتقبل، إنسان بلا مشاعر، مات مريضاً رثاً كأنه فقير معدم.
أتذكر بيوت الشعر المتناثرة، وكيف يعود ذلك الرجل العجوز وهو يسوق قطيعاً من الغنم فيلقي علينا التحية ويبتسم.
كانت الشمس تسرع في الغياب ونحن الصغار لا نريدها أن تغيب.
أتذكر الضباب حين يجيء الشتاء، وكيف يمر على الأرض ويلقي عليها الرذاذ، وكيف نلاحق الغيم وندعو أن يسقط الله علينا المطر.
كنت صغيراً وأنا أسمع الحكايات المتطايرة من أفواه الكبار، كنت أحدق طويلاً في عيني أبي التي أخذت السنين تتراكض في حدقتيه، ثم أحزن عليه وأبكي. في عيون الآباء ينابيع خفية لا تجف، وشموع لا تنطفئ إلا لتشتعل من جديد مثل منارات البحار، ترسل الأضواء كثيفة لإرشاد السفن الضائعة الجانحة.
أتذكر عواء الكلاب الجائعة، ومواء القطط التائهة.
البارحة عشت خلف نافذة الفندق المطلة على الشارع في تلك المدينة الشمالية الصغيرة النائية، أسترجع الذكريات، أفتح باباً وأغلق باباً، تذكرت الوجوه كلها والسراج والطرقات والحصى والشاحنات «الحصنية» الصغيرة، والرعاة والمرعى، والقيظ والشتاء، والرحيل الدائم نحو جهات الغيم، وأرض المطر، والربيع، حين يحل الربيع تبتهج النفوس وتنتشي، والطير والغدير والكمأ، والبرد وموقد النار وصفير الهواء الآتي من شقوق بيت الشعر، والرعد والبرق المخيف، والسراب واليقين، والعطش، والطرائد التي بلا وجهة، والأفواه التي لفها طعم المرارة، وطائر القطا الذي يغادر بيضه إلى المجهول يبحث له عن مأوى، والصاج والسدو والنطو والمغزل، وكيف حين يحل الربيع تصبح الوجوه طافحة بالبشر، بعد سنين البؤس والقحط والجفاف.
ذكريات تلمع أمامي مثل مرآة على صفحة بحيرة راكدة، مرت في خاطري كل تلك اللمحات مثل سيل من نقاط الماء، مشاهد وتعابير وتعاملات وفجوج.
اليوم الوجوه الشمالية أزهر في عيونها الحلم، حلقوا عالياً بالوطن، اختصروا المسافات الطويلة، حرثوا الأرض الجافة وأنتجوا القمح من اليابسة. أصحاب الوجوه الشمالية السمراء أحبوا الوطن، صعدوا به، حياتهم به ومعه صارت مثل حديقة انبهار، نجمة زرعت في خد سماء الوطن، ضوء عامر في صحراء الوطن، حلقوا به بثبات نحو الشمس، صاروا سلسلة عطاء، عرفوا الطريق بعد أن أزاحوا الجليد، يمدون أذرعتهم لأخذ الوطن نحو المدى والفضاء، ما عندهم تهاويم، ولغتهم نافرة بالبهاء وحب الوطن.