د. محمد بن يحيى الفال
في خبر كان حينها صعب التصديق نشرته صحيفة الجزيرة السعودية قبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وجاء فيه بأن ذكاء صناعياً يستخدم تقنيات متقدمة للحواسب الآلية تمتلكه شركة هندية قام بتحليل أكثر من 20 مليون قاعدة بيانات مختلفة من ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر والفيس بوك ومُشغلات البحث الواسعة الاستخدام على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) كغوغل، توقع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أقيمت في الثامن من شهر نوفمبر. وقد صرح مدير الشركة بما لا مجال فيه للشك بأن ترامب لا محال فائز كون حاسوبه للذكاء الصناعي لم يخطئ قط خلال 14 سنة من عمله، وذلك بغض النظر عن كل ما كانت تتناقله وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية بأن هيلاري كلينتون متقدمة على ترامب في كل استطلاعات الرأي بما فيها الاستطلاعات التي تمت بيوم واحد فقط من يوم الاقتراع. ولم يكن يجاري صاحب الشركة الهندية في ثقته غير المحدودة بفوز ترامب بالانتخابات الأمريكية سوى ترامب نفسه، والذي كان يؤكد لأنصاره المرة تلو الأخرى بأن الفوز سيكون من نصيبه وبأن عليهم بأن لا يلتفتوا لوسائل الإعلام الأمريكية والتي ناصبته العداء منذ الأيام الأولي لحملته الانتخابية بسبب آرائه التي تم تصنيفها تارة بالعنصرية وتارة أخري بالمجنونة. ولعل أكثر النقد الذي وجه لترامب من قبل وسائل الإعلام الأمريكية هو بأنه لا يمثل القيم الأمريكية المتعلقة بالتسامح والتعددية والانفتاح على العالم. ومع كل النقد اللاذع من قبل وسائل الإعلام لكل ما يمثله ترامب فلقد استطاع أن يفوز بالانتخابات وليتوج الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية بسابقة ستكون قطعاً مادة غنية للدراسة والبحث من قبل كليات السياسة والإعلام على المستوي القومي الأمريكي.
هناك ثلاثة أسباب رئيسة كانت من وراء الفوز الكاسح لترامب وهي الاقتصاد، تصاعد حدة الشعور بالأنتماء الوطني خصوصاً لدي الرجال البيض من الأمريكيين، وهذان السببان يتدخلان ويتفاعلان مع بعضها، وإضافة لذلك الضجة الغربية والملفتة للأنظار التي سببها مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (F.B.I)، وذلك بخصوص بريد هيلاري كلينتون الإليكتروني عندما كانت وزير للخارجية الأمريكية لمدة أربع سنوات. فيما يخص السببين الأوليين فالمعروف والذي لا جدال فيه بأن الوضع الاقتصادي يأتي على قائمة أوليات الشعب الأمريكي عندما يتجه لصناديق الاقتراع لانتخاب رئيسه، ولم تكن الانتخابات الرئاسية الأخيرة استثناءً، بل هي أكدت مقولة بأن الاقتصاد أولاً وثانياً وثالثاً عندما يقرر الأمريكي والأمريكية هوية الرئيس الذي سيحظي بتصويتهما. فالاقتصاد الأمريكي لم يتعافَ كلياً من آثار حربي الرئيس بوش الابن على كل من أفغانستان والعراق واللتين أثقلتا الخزانة الأمريكية بخسائر تخطت التريليون دولار. والجدير قوله بأن الرئيس باراك أوباما وبسياسته المتعلقة بعدم التدخل العسكري في العديد من النقاط الساخنة في العالم والتي وضع هو نفسه خطاً أحمراً لصبره وتجاوزه كما في استخدام نظام الأسد السلاح الكيماوي ضد مواطنيه وقد جنب تردده الاقتصاد الأمريكي الكثير الخسائر المتوقعة ونتج عن ذلك تحسن ملموس في أداء الاقتصاد الأمريكي، وإن كان ذلك لم ينهِ بشكل تام كل علاته. وبعلاقة الاقتصاد بالسبب الثاني المتعلق بتصاعد حدة الشعور بالانتماء الوطني بين الأمريكيين البيض خصوصاً والذي جاء كنتيجة للخسائر البشرية والاقتصادية التي مُنيت بها العسكرية الأمريكية في كل من حربي أفغانستان والعراق. ونتج عن ذلك ظهور شعور متزايد بين الأمريكيين من العرق الأبيض بأن على أمريكا أن تنكفي على نفسها وتعاود مراجعة حساباتها وأولياتها لتعود قوية كما كانت، ويحسب لها حساب كما كان هو حالها عندما خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية. ونرى هذه الفرضية ماثلة أمام أعيننا في تصويت ولاية فلوريدا المتأرجحة دوماً لصالح ترامب وهي الولاية التي يمكن القول بأنها تتقاسمها نزعتان، إحداهما كونها ولاية تكتظ بالمهاجرين خصوصاً من العرق اللاتيني والذي توعد ترامب بأنه سُيعيد غير الشرعيين منهم إلى بلادهم.. والنزعة الأخرى هي نزعة العرق الأبيض في الولاية خصوصاً بأن غالبيتهم من سكان الولاية من المتقاعدين كبارلسن بأعمار تشابه عمر ترامب والذين شاهدوا بأعينهم قوة ورخاء أمريكا المنتصرة بعد نهاية الحرب الكونية الثانية. العامل الثالث الذي أدي لفوز ترامب وخسارة هيلاري كان بمثابة صب الماء على الزيت الساخن ويتعلق ببريد هيلاري كلينتون الإليكتروني خلال عملها وزيرة للخارجية الأمريكية (2009- 2013). فقد اتهمت من قبل رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية جيمس كومي بأنها أساءت استخدام البريد الإليكتروني في إرسال رسائل غاية في السرية أو سرية من بريدها الشخصي عوضاً عن استخدمها لبريدها الحكومي والمحمي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، مما يعد تهاوناً منها كان بمقدوره أن يعرض أمن الولايات المتحدة للخطر. ولقد برأ المكتب هيلاري في شهر يوليو المنصرم من كل التبعات القانونية لإهمالها وليعود لفتح الملف مرة أخري وفي قمة الصراع الانتخابي وقبل عشرة أيام فقط من يوم الاقتراع، وليعود وبشكل مفاجئ ايضاً ليقفل الملف نهائياً وقبل يوم الاقتراع بخمسة أيام. كلينتون نفسها وكما صرحت علناً وفي الخفاء بأن ما قام به رئيس الاف بي آي كان السبب الرئيس من وراء خسارتها، ولامت كذلك الرئيس أوباما وإن كان على خفية لعدم جديته في كبح تسلط وتشويش الاف بي آي على حملتها الانتخابية وفرصها للفوز.
تُعيب وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية وكذلك قطاع كبير من الناس داخل وخارج الولايات المتحدة بأن الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب هو رجل أعمال ولا يفقه في السياسة، وهذا ليس بعيب بحد ذاته فتاريخ الانتخابات الأمريكية في الماضي غير البعيد يوضح بأن رونالد ريغان الممثل السينمائي الذي اكتسب خبرة سياسية بفوزه حاكماً لولاية كاليفورنيا تبوأ منصب الرئاسة الأمريكية لفترتين رئاسيتين (1981- 1989) وتعرض فيهما لمحاولة اغتيال لا دوافع سياسية من ورائها من قبل شاب أمريكي مختل عقلياً هدف لشد انتباه ممثلة أمريكية إليه (جون هينكلي، أطلق سراحه شهر سبتمبر المنصرم). وقد كانت تجربة ريغان الرئاسية تجربة ناجحة اقتصادياً من رجل لم يكن ذا خبرة اقتصادية وشهدت فترة رئاسته العديد من الأحداث المهمة التي أثرت وما تزال على عالمنا منها تفكك الاتحاد السوفيتي، سقوط جدار برلين وتوحد ألمانيا، تزويد أمريكا إيران بالأسلحة عن طريق إسرائيل خلال الحرب العراقية الإيرانية في القضية التي عرفت إعلامياً «بإيران كونترا». وتاريخ ترامب يؤكد بأنه وهو رجل الأعمال الناجح والذي كون ثروة ضخمة كان محركها ما ورثه من أبيه رجل العقارات النيويوركي، لم يكن بعيداً عن السياسة مطلقاً ويظهر ذلك من خلال ما صرح به قبل ربع قرن لنجمة التلفزيون الأمريكية أوبرا وينفري بأنه ينوي يوماً من الأيام الترشح لمنصب رئاسة الولايات المتحدة، كذلك فإن أعماله التجارية قادته لعلاقات متعددة ومتنوعة مع الساسة سواء داخل أمريكا أو خارجها. كذلك فمن المعروف بأن حاول الترشح عن حزب الإصلاح (Reform Party)، في انتخابات 2000 الرئاسية. وحزب الإصلاح هو من أفكار رجل الأعمال الأمريكي من ولايات تكساس روس بيرو (Ross Perot)، والذي حاول مرتين الترشح لمنصب الرئاسة الأمريكية، المرة الأولى كمستقل في انتخابات 1992، والمرة الثانية عن حزب الإصلاح في انتخابات 1996. ويبدو أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب قد استفاد بصورة أو أخري من تجربة بيرو ويحمل كذلك العديد من أفكاره الاقتصادية خصوصاً معارضته لاتفاقية التجارة الحرة لدول شمال أمريكا المعروفة اختصاراً «نافتا» والتي تنظم التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
في برنامجه الانتخابي أكد المرشح الجمهوري رجل الأعمال ترامب بأنه سيتم ترحيل كل المهاجريين غير الشرعيين من الولايات المتحدة وبأنه سوف يتم بناء جدار يعزل الولايات المتحدة الأمريكية عن المكسيك لإيقاف الهجرة غير الشرعية من المكسيك. وبعد فوزه بكرسي الرئاسة وفي حديث لبرنامج 60 دقيقة الشهير الذي تبثه قناة سي.بي.سي(CBC)، صرح للقناة رجل الدولة ترامب وبنغمة مختلفة وأقل حدة عن نفس القضايا الآنفة الذكر، وقال بأنه سيتم ترحيل المهاجريين غير الشرعيين ذوى السجلات الإجرامية، وبأن الجدار الذي سيبني بين الولايات المتحدة والمكسيك لن يكون جداراً بمجمله، بل سيكون في بعض أجزائه سياجاً. من نغمة وتصرفات رجل أعمال إلى نغمة وتصرفات رجل دولة هو الفعل المترقب والمأمول من الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية دونالد جون ترامب، فهو في العشرين من يناير المقبل وعند تأديته اليمين الدستورية من أمام الكونجرس الأمريكي لرئاسة الولايات المتحدة سيضع رجل الأعمال جانباً وسيمضي قدماً كرجل دولة، داخلياً لتنفيذ أهم ما وعد به الناخب الأمريكي وهو إنعاش الاقتصاد الأمريكي بنسبة نمو 4 % سنوياً وإصلاح قانون الضرائب، وخارجياً لديه أرث من الملفات المزمنة والعالقة كالقضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني والصراع في سوريا، وهي ملفات في غاية الأهمية لأمريكا ولحلفائها في العالم، والمحك هنا هو لمن سوف يسند الرئيس ترامب مسؤولية التعامل مع هذه الملفات ذات الأهمية القصوى لمصداقية أمريكا ومصالحها في شتي بقاع المعمورة.