د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
في (ملقا) كنا على موعد أيضاً مع إحدى أشهر (القصبات الأندلسية) التي تقع أعلى التل في قلب المدينة مطلةً على الميناء، وتعد هذه القصبة من أبدعها، إذ يؤكد التاريخ أن بُناتها خصصوا لها عناية فائقة، فالمدخل مبني على أساسات رومانية قديمة تعود إلى القرن الأول للميلاد، وهي ثكنات عسكرية أمازيغية بنيت إبان الحكم الإسلامي للأندلس، وقد أقام المسلمون مثلها في المدن الأندلسية الكبرى كغرناطة وقرطبة وغيرهما، والغرض منها الدفاع عن المنطقة والمناطق المجاورة لها.
أجبرنا التعب -الذي لحقنا من صعود هذه القصبات، ومن السير الطويل في شوارع (ملقا) وشواطئها الجميلة- على البقاء في يومنا الثالث في مدينتنا الجميلة (فيونـخرلا) والجلوس في شاطئها الذي لا يمل، أما يومنا الرابع فقد كان خاصاً بـ(غرناطة)، تلك المدينة الأندلسية التي طالما حلمتُ بزيارتها، انطلقنا إليها مع شروق الشمس، وخلال ساعتين كنا في المواقف الخاصة بقصر (الحمراء) الذي شيده محمد بن يوسف الأحمر خلال النصف الثاني من القرن العاشر، كنتُ متلهفاً لزيارة هذه التحفة الإسلامية المعمارية الذي اختير قبل سنوات ضمن قائمة كنوز إسبانيا الاثني عشر، غير أننا فوجئنا بنفاد التذاكر، وأنَّ المسموح لهم بالدخول هم الذين حجزوا عن طريق الموقع الإلكتروني قبل وقت طويل، فاكتفينا بالتجول في أنحائه، والاستمتاع بالمشاهد الخلابة لحديقته الخارجية.
في (غرناطة) تذوقنا الطبق الإسباني الشهير (الباهيا) المكوَّن من الأرز الأسباني والخضروات أو اللحوم أو الأسماك حسب الاختيار، وعرفتُ أن اسمه مأخوذ من الكلمة العربية (البقية)، حيث كان أمراء الأندلس والموسرون منهم يأخذون ما تبقى من ولائمهم ويعطونه للفقراء، ولذلك كان الأرز يختلط بما معه من خضار أو لحوم أو أسماك، وقد تعود الناس عليه حتى أصبح طبقاً شعبيا يتفنن الإسبانيون في طبخه وتقديمه.
أما يومنا الخامس فقد أجبرتنا فيه الأجواء الماطرة بغزارة على عدم السفر بعيدا، فكان القرار بزيارة (بينالمادينا) benalmadena المدينة الهادئة الشاطئية التي لا تبعد أكثر من ربع ساعة عن مدينتنا، وفي سوقها المطل على الميناء قضينا ذلك اليوم البديع.
وفي أشهر المدن السياحية في أسبانيا كان يومنا السادس والأخير، حيث انطلقنا إليها في صباح يوم جميل زاده الطريق الجبلي جمالا، لم تكن تبعد (ماربيا) سوى نصف ساعة، كانت شواطئها الممتدة على مد البصر وجوها الاستثنائي المعتدل خير ختام لهذه الرحلة الجميلة، غير أننا فضلنا عدم الخروج منها دون إلقاء نظرة على البلدة القديمة (كاسكو أنتيغوا) وساحة (البرتقال) الشهيرة، استعدنا في هذه المدينة الجميلة ذكريات (برايتون) البريطانية، حيث كانت تشبهها إلى حد كبير.
كانت تلك الليلة آخر الليالي الإسبانية، حيث حزمنا حقائبنا في صباح اليوم التالي الرابع عشر من أكتوبر متوجهين إلى مطار (ملقا)، حيث سنسلم سيارتنا إلى فرع الشركة هناك، ونستقل طائرة تابعة لإحدى الخطوط المحلية، منطلقين إلى (باريس) التي لم تكن تبعد أكثر من 3 ساعات، حضور دورة تدريبية تابعة لعمل، إذ كانت الخطة الأصل أن نعود إلى العاصمة الإسبانية لنمكث يومين في ريفها قبل أن نعود إلى الرياض، غير أنَّ ترشيحي لهذه الدورة أدى إلى تغيير مسار الرحلة، وزيادتها أسبوعا في ربوع العاصمة الفرنسية التي كانت أكثر برودةً وأقل متعةً بسبب العمل.
لقد كانت التجربة الأولى لزيارة أسبانيا، ومشاهدة أهم معالمها السياحية، بدءاً من عاصمتها الجميلة (مدريد)، ومروراً بـ(طليطلة) التاريخية، وانتهاءً بجنوبها الأندلسي الذي لم يتهيأ لنا زيارة بقية مدنه كـ(قرطبة) و(إشبيلية)، فهناك تشعر بالتاريخ الإسلامي المجيد الذي يفيض عبقه من كل زاوية من زوايا هذه الأماكن التي لا تزال شاهدةً على حضارةٍ وفكرٍ وثقافةٍ ألهمتْ العالم، وأنارتْ الكون، وخلَّد التاريخُ رجالها: فرساناً وعلماء وملوكاً وأمراء، ولم يبق إلا أردِّد مع نزار حين التقى بدليلته التي:
قالت: هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها؟ ومسحتُ جرحاً نازفاً
ومسحتُ جرحـاً ثانياً بفؤادي
يا ليت وارثتي الجميلة أدركتْ
أنَّ الذين عنتهُمُ أجدادي
عانقتُ فيها حينما ودَّعتُها
رجلاً يُسمَّى (طارق بن زيادِ)