د. عبد الله المعيلي
يُعَدُّ التعميم بأن «الكل يسرق» اتهامًا واستفزازًا لكثير من الناس، لكن أرجوك أخي الكريم أن تتأنى وتتحمل ما تعده اتهامًا، وأن تصبر على مواجهته ومحاولة الإجابة عنه؛ فكم مرة سرقت هذا اليوم؟ أرجوك ألا تتعجل، وألا تضطرب، وألا تغضب.. فقط كل ما أرجوه منك أن تتأمل سلوكياتك التي سلكتها هذا اليوم، وأن تتعرف منها كم مرة سرقت؟ وأين؟ وما الذي سرقته؟ أكيد أنك خلصت إلى نتيجة حتمية جازمة، هي أنك - ولله الحمد - لم تسرق، وأنك ترفض هذا السلوك البغيض المقيت، بل تقف ضده وتحاربه؛ فهذه السمة لا تتوافق مع خُلقك بصفتك مسلمًا، ولا مع سمتك. وعلى الرغم من هذا أقول لك: مهلاً، أرجوك أخي الكريم أن تراجع نفسك، وأن تتأكد كم مرة سرقت هذا اليوم، وأين؟ وما الذي سرقته؟ إن كنت متأكدًا من أنك لم تسرق فهذا أمر أنت حري به، واحمد الله تعالى على أن عافاك من هذه الخصلة البغيضة، ولكن تأن، ولا تعجل، وتعالَ نقرأ ونتدبر معًا هذا الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته». قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق صلاته؟ قال: «لا يتمُّ ركوعَهَا وسجودَهَا» أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وبعد أخي الكريم، يبدو من استقراء واقع الحال، ومما يغلب عليك وأنت تؤدي صلاتك، وما تشاهد في المساجد أثناء أداء المصلين الصلاة والنوافل، أن أمثال ذاك الرجل كثير، وأننا كلنا ذاك الرجل، كلنا يسرق صلاته بالخروج من إطارها الخاشع لله وحده، الذي يفترض أن ينقطع أثناءه الإنسان عندما يقول «الله أكبر» عن الدنيا ومشاغلها، ويستحضر كونه واقفًا بين يدي الله سبحانه وتعالى. حتمًا كلنا ذاك الرجل الذي يخرج في كل صلاته، ويبدأ يستحضر مشاغله وحاجاته.. أليست هذه سرقة؟ وأي سرقة؟ لا ريب أنها أسوأ أشكال السرقة. وللحكم بأنها أسوأ سرقة مسوغات، منها كون السرقة تتم في بيت من بيوت الله، هذا البيت الذي يؤمه المسلم يوميًّا خمس مرات؛ ليتزود فيه من الطاعات، وليقف أمام ربه؛ ليجدد العهد ملتزمًا طائعًا راجيًا خائفًا، لكنه بفعلته هذه ينتقص من هذه الأعمال والطاعات ويفسدها.
ومنها كون السرقة تتم والسارق واقف بين يد ملك الملوك، ليس بينه وبين خالقه وسيط ولا رقيب، ولا آمر ولا ناه، فأين الحياء من الله؟ وهو الرقيب العليم، الذي يرجى ثوابه، وأين الخشية من الله؟ وهو المنتقم الجبار، الذي يخشى عقابه.
ومنها كون هذه السرقة على خلاف ما هو معهود فيها، فالسارق يعمد إلى السرقة بمظنة الانتفاع والاستمتاع بما يسرق، لكنه في هذه الحال يسرق نفسه؛ إذ إن فعلته تلك تقلل من نصيبه في ثواب الصلاة وفضلها، وينال عوضًا عن ذلك خسارة وعقابًا.
كلنا يعرف الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، وبعد كل صلاة كان يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أُحسن غير هذا، علمني. قال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر لك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
لقد تعددت مشتتات الذهن وملهياته؛ فالكثير من الناس يكاد يحدِّث نفسه من كثرة معاناته من هموم الدنيا، ومع هذا فلعل النية تتجه، والإرادة تقوى على عزل أوقات الصلاة وتحييدها عن الدنيا وهمومها وشجونها، وأن يتذكر المسلم في هذه الصلوات أنه يقف بين يدي الله ملك الملوك، وكفى بهذا محفزًا على إظهار الكمال والإجلال، وكفى به رادعًا ومنبهًا عن التمادي في الانغماس في الدنيا وحاجاتها التي لا تنتهي.