عبد الرحمن بن محمد السدحان
(1)
- في مثل هذه الأيام قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن، رحلتْ عن دنيَايَ (شمسٌ) الأمومة الخالدة، كانت تملأُ حياتي دفْئاً وحبّاً وتفاؤلاً، وكان فقدُها عليَّ عظيماً!
> واليوم وأنا أتذكر رحيلهَا، يطبقُ على أنفاسي صمتٌ لا أعلم له سراً ولا معنىً! اليوم.. ولأول مرة منذ أن (ولدت) عبر لساني فطرةُ الكلام.. يخونُني النطقُ، وتتعثّر في صدري آهة الإحساس بالحنين!
- لماذا؟ هل لأنّ مشَاعَر الفُقْد لك يا سيدة الحنان قد خَبتْ!؟
- ويأتي الرد من الأعماق كالقذيفة قائلاً:
- (لا وألف لا)! فرغم إيماني حتى النخاع بقضاء الله وقدره، إلاّ أن بُعدَ والدتي القريبَ أو قربَها البعيد يفيض في خاطري بين آن وآخر، وهأنذا اليوم بعد مرور فترة مثخنة بالحزن على رحيلها رحمها الله وأكرم مأواها، (أتوسّد) طيفَها الجميلَ كلمّا أمَسيتُ، وأتمتمُ باسمها كلّما أصبْحتُ.. وأدعو لها بالرحمة والرضوان كلّما مثَلتُ بين يديْ الله ربَّ العالمين، وأن تبقى معي رُوحاً وإلهاماً وذكرى.. تعانقُ دمعتي متَى حزنتُ، وتحتضِنُ ابتسامتي متى فرحتَ، وتعزّي قلبي متى نالني من ضَيْم الدنيا نصيب!
(2)
- قال لي صاحبي وقد انتشى بسَماع جُزْء من ملحمة طفولتي: أعجب منك، إذْ لم تَدعْ سطوةَ الحياة تكْسرُ شوكةَ الطموح في طبعك أو تهزمُ إرادة الحياة في وجدانك!
- فقلت معلّقاً: أحمد الله، أولاً، أن جَعل بداية مشوارَ العمر قاسيةً، كيْ أتعلّم عبرها ما لم أعلمْ عن نفسي، وعن دنياي.. وعن الآخرين معي!
- ثم أحمدُ الله أن مكننَّي من البقاء كي أدركَ الفرقَ بين أمسي الذي كان ويومي الذي يوشك أن يصبح أمساً!
- وأحمد الله أخيراً، أن بلغّني اليومَ الذي أعرفُ فيه معنىَ الراحة بعد مرارة التعب، واليُسْر بعد فتنة العُسْر، واللذة بعد شقَاء الحرمان!
(3)
- لي صديق عزيز.. يجمعني به غيرُ الود، شيءٌ آخر، كان وما برح أثيراً علينا معاً، ذاك هو الحب لفاتنة مدائن الدنيا (باريس) وخاصة في شهر سبتمبر، كتب لي مرة هذا الصديق يمتدح نصاً كتبته عن تلك المدينة، فأجبته برسالة طويلة، اقتطف منها ما يلي:
- أنا مثلك أعشق باريس في كل الفصول.. لكن لها في سبتمبر وحدَه.. لوناً تتميز فيه به عن وصيفاتها الأُخَرِ جمالاً وسحراً! هنا لا تسلني لماذا؟ فأنا مثلك لا أدري!
- ورغم ذلك (سأتطوع) بردٍ قد يشفي جزءاً من غليل السائل والمجيب فأقول: أنني أكره رحيلَ المطر.. وهجرَ الأحبّة! لكن في سبتمبر باريس، يعود الأحبّةُ إليها.. أو هي تعودُ إليهم من جديد، تُزَفُّ إليها عناقيد المطر.. لتغتسل به أشجارها وأزهارها وميادينها، من أوضَار الصيف.. وتغُدو سماؤُها لوحةً أخّاذةً تتعانق فيها لآلئُ المطر مع ابتسامةِ الشمس.. وغلالاتِ السُّحب!