د.عبد الرحمن الحبيب
أكد رئيس الاستخبارات الأمريكية أمام مجلس النواب أنه خلال عمله لخمسين عاماً لم يشهد مثيلاً لحجم التهديدات التي تواجه بلاده.. بمقدمتها مواجه تحديات من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، إضافة لتهديدات الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والهجمات الإلكترونية.
كان ذلك بعد تقديم استقالته كإجراء عرفي لأعضاء الإدارة الحالية حتى يتركوا للرئيس المنتخب حرية اختيار بديل أو تكليفهم بالاستمرار في المنصب. العلاقة مع روسيا ليس فقط أهم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، بل لعله أهم ما تنتظره دول العالم من الإدارة الأمريكية المقبلة في تحديد طبيعة النظام الدولي القادم، ففيها محاولة لاستشراف مستقبل الخلاف بين الطرفين خاصة في منطقتنا بالشرق الأوسط.
بداية فالرئيس المنتخب تلقى رسالتين متناقضتين؛ الأولى من أوباما الذي أكد في مؤتمر صحفي أنه دعا ترامب إلى أن يتصدى لروسيا عندما تنتهك القواعد الدولية في قضايا مثل أوكرانيا وسوريا، ونصحه بعدم عقد صفقات يمكن أن تضر الأمريكيين مع الرئيس الروسي بوتين (سي إن إن). الرسالة الأخرى من الكرملين خلال محادثة هاتفية من الرئيس الروسي بوتين بحث مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب التعاون «غير المرضي» بين روسيا والولايات المتحدة حول الأزمة السورية (وكالة الأنباء الروسية «تاس»). وقال مساعد الشئون الخارجية الروسية يوري أوشاكوف، إن الكرملين يرى فرصة في «تطبيع» ذلك مع الرئيس الأمريكي المنتخب، لكننا لا نملك حالياً سوى إشارات.. إشارات مجرد إشارات.. الجميع لا يملك غيرها الآن سوى الرئيس المنتخب ومن حوله من مساعديه ومستشاريه، فالكرة في ملعبهم. لكن مجلس النواب الأمريكي أخذ الكرة في الوقت «بدل الضائع» وبدأ تحريكها سريعاً وبشكل مفاجئ مصوتاً بالإجماع على فرض عقوبات ضد كل من يساعد نظام الأسد بما في ذلك روسيا وإيران.. مطلقاً على مشروع العقوبات اسم قانون «قيصر»، نسبة لمسرب صور التعذيب والقتل في معتقلات نظام الأسد المعروف بقيصر.. فضلاً عن إقرار الكونجرس الأمريكي لتمديد العقوبات الاقتصادية على إيران عشر سنوات أخرى وعقوبات جديدة على النظام السوري.
ماذا يعني هذا التصعيد غير المتوقع من المؤسسة التشريعية الأمريكية؟.. من المبكر الإجابة، لكنه يمكن أن تكون رسالة خارجية لمن يرى أن الإدارة الأمريكية المقبلة قد تتهاون مع روسيا التي فرحت بفوز ترامب. يمكن، أيضاً، أن تكون رسالة داخلية موجهة للإدارة القادمة في البيت الأبيض الأمريكي تؤكد أن أمريكا دولة مؤسسات قادرة على توجيه الدفة الخارجية لأمريكا.. وربما تكون ببساطة إقرار لمشروع اعترض عليه الرئيس أوباما مراراً، وطلب من الكونجرس عدم التصويت عليه لأنه سيواجهه بالفيتو، ووافقوه حينها.. والآن ليس من المتوقع أن يواجههم بالفيتو في آخر أيامه في إدارة البيت الأبيض، وحانت الفرصة لإصداره.. أي أنه مجرد توقيت. هذا أيضاً يسري على إقرار مجلس النواب الخميس الماضي بمنع بيع طائرات تجارية (بوينغ وإيرباص) لإيران سبق أن وافقت عليها إدارة أوباما.
في كل الأحوال، فإن قرار الكونجرس الأمريكي بفرض العقوبات أثار انزعاج الكرملين بشكل حاد، ولعل ذلك يفسر الانسحاب المفاجئ والغريب لروسيا من المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت للنظر في جرائم الحرب بعد التصويت مباشرة على قانون قيصر من مجلس النواب الأمريكي. أضف إلى ذلك تكثيف الهجمات الجوية الروسية بحدة على حلب كرسالة للكونجرس الأمريكي أو كاستباق لما يمكن أن تصدره الإدارة الجديدة للبيت الأبيض.
رغم أن الدوما الروسي (البرلمان) اهتز بالتصفيق الحاد عند إعلان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لأن الأخير في حملته الانتخابية، أعرب عن إعجابه بالرئيس الروسي بوتين، والأهم من ذلك أنه أشار إلى أنّ الولايات المتحدة قد لا تساعد حلفاءها الضعفاء في حلف «الناتو» إذا ما تعرّضوا للهجوم، على الرغم من أن المعاهدة تلزمها القيام بذلك.. وصرح أنّه سوف يبحث في رفع العقوبات المفروضة على روسيا والاعتراف بشبه جزيرة القرم كجزءٍ منها.. إلا أن بوتين ومعه بقية العالم يعلمون أن الكلام أثناء الحملات الانتخابية يختلف عن الأفعال المنتظرة أثناء عمل الإدارة الجديدة.
فما الذي ستفعله الإدارة الجديدة في البيت الأبيض؟.. إذا كان هناك توافق بين الرئيس الروسي بوتين مع ترامب من ناحية منهج التعامل السياسي مع الآخر، وهو التشدد في المصالح الوطنية الإستراتيجية لبلديهما دون تنازل، فالمتوقع ألا يتوافقان (على الأقل من الناحية النظرية) وسرعان ما سيختلفان إذا كان كل طرف يرى أنه القوة العظمى غير القابلة للتنازل.. بل قد يختلفان بحدة أكثر مما هو حاصل مع إدارة أوباما «المتساهلة» مع التمدد الروسي في أوكرانيا وفي سوريا.
تاريخياً، خلال الأربعين سنة الماضية، يمكن ملاحظة أن أضعف لحظات روسيا (الاتحاد السوفييتي) مع أمريكا تظهر من الرؤساء الجمهوريين: نيكسون، ريجان، بوش.. على خلاف ذلك مع الديمقراطيين: كارتر، كلينتون، أوباما.. الآن تأتي إدارة أمريكية من الحزب الجمهوري رغم أنها تبدو شبه مستقلة عن الحزبين، لكن المؤشرات الأولى ليست لصالح روسيا ولا حلفائها رغم ما يبدو لدى كثيرين خلاف ذلك.