ياسر صالح البهيجان
تصطنع كل ثقافة بشريّة أساطيرها المتجاوزة لتجسيد المفاهيم ذات الدلالة العقديّة والجانحة نحو تشكيل نظام تواصلي يكتسب طاقته التداوليّة من البُعد التاريخي، ومعها تستحيل الأسطورة إلى أيقونة دالّة على مجتمع بعينه، تختزل كافّة تصوّراته الذهنيّة ومرجعيّاته الدينيّة والمعرفيّة.
يقول رولان بارت «إن الأسطورة كلام يختاره التاريخ، وهذا الكلام رسالة، يمكن أن يتكوّن من كتابات أو تمثّلات، فالحديث المكتوب، الصورة، السينما، التحقيق، الرياضة، المشاهد، الإعلانات، كل هذه تصلح أن تكون رافعًا أساسًا للكلام الأسطوري».
الثقافة العربيّة حفلت بالتشكلات الأسطوريّة الدالّة على المعتقدات الدينيّة في مرحلة ما قبل الإسلام، وتشير الحفريّات إلى أن ود إله قوم ثمود كان يرمز له برأس ثور، وكانت رسومات للشمس والقمر معلّقة على أستار الكعبة في الجاهليّة، وعندما أتت البعثة المحمديّة اكتسبت الأسطورة سمات جديدة فرّغتها من قدرتها في التأثير، وباتت توصم بالخرافة، وتحوّلت معها من ثقافة معلنة إلى نسق مضمر يستتر خلف جماليّات الأدب، وعندها استحالت الأسطورة من رمزيّة متعاليّة إلى ذات فوقيّة كما نجد في أنموذج المتنبّي الذي جعل من نفسه أسطورة بإشارته إلى أن الأعمى بإمكانه تجاوز حالة فقدان البصر بالنظر إلى أدبه، والأصم هو الآخر يتخطى إعاقته ليسمع ما يُنشده الشاعر الأسطوري من أبيات.
والتمظهرات الأسطوريّة كذلك لم تنفصل عن الدين الإسلامي لدى عدد من المذاهب الإسلاميّة، كحال المتصوّفة المؤمنين بفكرة وحدة الوجود، والتي عبّر عنها البسطامي بقوله «ليس في الجبة إلا الله»، إلى جانب مفهوم الاعتقاد لدى الأشاعرة، وإلغاء الإمام الغزالي لمبدأ السببيّة في تفسيره لمفهوم المعجزات، وما كتبه ابن باجه في «تدبّر الموحّد»، وما قاله السهرودي في «الغربة الغريبة»، وكتاب العطار «منطق الطير»، جميعها تتضمّن رؤى أسطوريّة لا تنفصل عن التشكّلات النسقيّة التي تُعد حيلة ثقافيّة تخاتل فيها الثقافة حرمة الأسطورة، وتؤسس بيئة جديدة تتيح لها إمكانيّة الظهور المتخفّي برداء الجميل تارة والتديّن تارة أخرى.
النسق الأسطوري يكشف في أبعاده العميقة عن رغبة الكائن البشري بتجاوز حدود واقعه الضيّق والذي يشعر معه الإِنسان بمدى عجزه وضآلته إزاء اتساع الكون وانضباطه وفق قوانين طبيعيّة تنسجم مع مفهوم المعقوليّة والإدراك، ولكي تفسّر المجتمعات البشرية إشكالاتها المعرفيّة اتجهت نحو الأسطورة حتى باتت الشعوب المؤمنة بالأساطير توسم بالتخلف العلمي؛ لأن العلم وحده من يبطل مفعول الأساطير ويعرّيها من دلالاتها المصطنعة، ويعيد للعقل جوهره المفكّر والمتأسس على مبادئ قابلة للإدراك والتصوّر والقياس وخاضعة لمفاهيم المنطق الذي يعصم الإِنسان من الوقوع في الخطأ أو اعتناق الفكرة الخاطئة.