عماد المديفر
في لحظة طرب.. ونحن نستقل سيارة الأجرة في إحدى المدن الصينية في طريق العودة إلى المنزل برفقة جارتنا المعلمة الأميركية بعد عشاء في مطعم قريب برفقة العائلة.. لم نتنبه إلا و«كيتي» تغني بزهو وبلهجة سعودية نجدية خالصة وتتمايل بنشوة: «بلا حب بلا وجع قلب.. وش جانا من ورى هالحب.. غير الألم، غير التعب، وش جانا؟.. ياناس أنا مابي دفى.. قلبي من الحب اكتفى.. وين العشق.. وين الوفا ودانا؟».. صراحةً لم أكن لا أنا ولا زوجتي نحفظ أغاني الفنان راشد الماجد كما تحفظها هي.. وكنا نحاول مجاراتها وكانت تبزنا في كل مرة تتغنى بإحداها معنا..
طريقة تعرفنا على «كيتي»، أو بالأحرى تعرفها هي علينا؛ تبرز مدى ولعها بالثقافة السعودية «لغة، ولهجات، وطبخ، وأغاني، ورقص».. ولعلي أذكرها في مقالة أخرى، إلا أن مناسبة سردي لهذه الحكاية؛ هو تكريم الجمعية الأمريكية للإعلام الخارجي للفنان ناصر القصبي في حفل دولي بهيج حمل عنوان: «تأثير وقوة الأفلام».. وذلك تقديراً له على جهوده الرائعة في محاربة الإرهاب والأفكار الراديكالية المتطرفة بحضور السيناتور ليندسي غراهام، وبمشاركة سمو السفير الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي ومعالي وزير الخارجية الأستاذ المتألق عادل الجبير.
سبق أن دار حديث بيني وبين أستاذي الفاضل الدكتور عبدالملك الشلهوب - الرئيس المكلف لهيئة الإذاعة والتلفزيون - عن دور الدراما المهم والحيوي كقوة ناعمة مؤثرة، ونحن نتجول في أحد مواقع التصوير الدرامي في إسطانبول التي شُيدت كمدينة مخصصة لإنتاج الأعمال التراثية والتاريخية التركية، وسبق ذلك بأكثر من 16 سنة، حديثي مع المخرج السوري بسام الملا عن الموضوع ذاته.. وكنت حينها أتحدث عن فكرتي لإنتاج مسلسل تاريخي تراثي سعودي يتناول تاريخ المنطقة بقالب دراما اجتماعية جادة ومشوقة تبرز قصص البطولات والتضحية، وتُظهر القيم الثقافية والعادات والشيم التي تميز بها المجتمع السعودي من نخوة وشهامة وشجاعة وإيثار وتضحية لأجل الدين والوطن، يحمل اسم «سور الدرعية» لم تر النور أو الدعم - للأسف - في حينها.. وذلك في معرض انتقادي وعدم رضاي لنص وطريقة إنتاج المسلسل السعودي «زمن المجد» الذي كنت مشاركاً فيه حينها بمناسبة مرور 100 عام على فتح الرياض مع نخبة من زملائي الفنانين، وبعد نقاشي مع «الملا» بأربع سنوات.. وسؤال أخيه وزميلي المخرج «محمود الملا» الدائم عن ماذا تم بالفكرة، ذكرت له حينها بأن «العين بصيرة واليد قصيرة»، يقدم الأستاذ بسام مسلسله الشهير «ليالي الصالحية»، ثم يتبعه بسلسلة «باب الحارة» الذي بلغت شهرته الآفاق، ونجح أيما نجاح.. هذان العملان اللذان كانت فكرتهما بالأساس مبنية على لب حديثنا في إحدى ليالي شتاء «بلودان» 1999م حول فكرة «سور الدرعية».. والتي أبدى لي حينها المخرج القدير «بسام الملا» رغبته الجادة لإخراجه في حال رأت الفكرة النور.
الأسبوع الماضي بشرني الأستاذ الفنان عبدالإله السناني عن بدء تصوير المسلسل المتميز «العاصوف» والذي يتكون من أربعة أجزاء، يتناول الحالة الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لمدينة الرياض لأربع عقود من خلال أسرة مكونة من 4 إخوة - بنت وثلاثة شباب- تدور الأحداث من خلالهم، وتبرز التغيرات التي حصلت خلال تلك الفترة، كالطفرة، وما يسمى بـ «الصحوة»، وكل جزء يتناول عقداً من الزمن، الرياض في الستينيات، ثم السبعينيات، وهكذا.. وهو عمل ملحمي كبير كتبه الدكتور عبدالرحمن الوابل - رحمه الله. ومن أسلوب حديثه معي تبين لي أن العمل بالفعل علامة فارقة في تاريخ الدراما السعودية.. وذكرّته بأهمية الاعتناء بموضوع دبلجته للغات عدة فيما بعد.
حين أتحدث مع زملاء من دول أجنبية مختلفة عن فنوننا العربية الأصيلة، وعن قصص تراثنا وتاريخنا، وأنها مختلفة تماماً عما لديهم من صورة نمطية عنَّا، يتساءلون: «لِمَ أنتم غير مهتمين بتقديم فنونكم لنا؟ للعالم؟ نحن شغوفون لنستمع لكم، فلا نعرف عنكم سوى بترول وصحراء وجمال وأموال!» وزاد بعضهم «وإرهاب وحروب وقلاقل، بالإضافة إلى مكة والمدينة بالطبع»! لقد كشفت لي قصة «كيتي» وغيرها من القصصة والتجارب التي رأيتها، مدى علو كعب فنوننا، وفنانينا، وقدرتنا على الجذب، وقصصنا وتراثنا على نيل الإعجاب.
إن ذلك كله، يدعونا لضرورة تفعيل دبلوماسية الفنون بأنواعها، لما لهذا النوع من الدبلوماسية الشعبية من أهمية. كونه يأتي تلبية واستجابة لشغف الشعوب الأجنبية بالفنون، ما يعني أنه يقدم إشباعاً لرغباتهم واهتماماتهم. فمن خلال دبلوماسية الفنون نظهر حرصنا على إطلاعهم على ثقافتنا وفننا، وإشراكهم معنا عبر عرض تاريخنا وتراثنا، وهو ما ينعكس إيجاباً على صورتنا الذهنية لديهم.
كما أن هذه الفنون تسهم - وبشكل فاعل - في توفير سياق غني للثقافة السعودية تلمسه وتعيشه شعوب العالم، وتظهر لهم مشاعرنا الإنسانية، وامتداداتنا الحضارية الضاربة في عمق التاريخ والتراث البشري، والمؤثرة في بناء الحضارة الإنسانية بكل تعقيداتها.
إنها فرصة سانحة لجعل الجماهير الأجنبية تعيش تجربة إنسانية فريدة، تظل محفورة في الذاكرة، وفي العقل الباطن. فمن خلال الفن تتشكل الانطباعات القوية التي لا تنسى بسهولة. إن هذا النوع من الدبلوماسية الشعبية يجعل الشعوب ترتبط بنا وبوطننا عبر لحظات ماتعة غنية بالمشاعر الإنسانية العميقة والمميزة والخاصة، ما يعطي حياة الشخصية السعودية قيمة رفيعة ذات أبعاد متعددة في عقول تلك الجماهير.
إلى اللقاء.