د. جاسر الحربش
هل سألت نفسك بعد اجتياز المعركة المرورية الصباحية كم شتيمة أو حتى لعنة أفلتت منك؟ المقصود هنا ذلك النوع الذي لا يصيب شخصاً بعينه (الملاعنة)، وإنما التعبير عن حالة الانزعاج الشخصية. لنفترض أنك تقطع خمسة كيلو مترات من البيت إلى العمل يومياً، تتعامل أثناءها مع مفاجآت المرور وعدوانية السائقين وتكدس السيارات بسبب حادث بسيط عطل الحركة بالكامل. من كان منكم محصناً ضد هذه الطريقة السيئة في التعبير عن الانزعاج، فهو واحد من اثنين، إما أنه يعمل في المرور أو عاطل عن العمل.
المهم، الوضع المروري في شوارع المدن العالمية الكبيرة يعطي مؤشراً جيداً على الأوضاع الاقتصادية والنفسية والحضارية في أي مجتمع. سائق السيارة في كندا كمثال لا يوجد عنده مبرر لإطلاق اللعنات والشتائم، لأن الرضى عن انسيابية المرور يحكم الطرق والتقاطعات والمنعطفات، ومن علامات الرضا الاقتصادي والاجتماعي السحنات الودودة وتبادل الابتسامات بين السائقين ووجود الشرطي للتدخل الفوري وفك الاختناقات والتعامل مع أية حالة طارئة. إذا انتقلنا للدولة المجاورة لكندا مباشرة، الولايات المتحدة الأمريكية، هناك تنطلق اللعنات والشتائم السيئة من كل الجهات. السبب هو أن المواطن الأمريكي يمر بحالة إحباط وباستقطاب عدواني بين مكوناته وبفوضى تسببها المخدرات والمشروبات الكحولية، وخصوصاً في الأحياء المحرومة من التنمية والتعليم والرعاية الصحية. هكذا تكون المؤشرات الصالحة للقياس الإحصائي عن إحباط المواطن الأمريكي ورضا المواطن الكندي متوفرة في الشارع انسجاماً مع أوضاعه الاجتماعية. هذا القياس صالح للاستعمال كمؤشر حضاري في المدن العربية كلها ما عدا دبي، لأنها تدار بقوانين وتطبيقات علمية صارمة يفرضها التكوين الديموغرافي العالمي هناك.
والآن عليك أن تتخيل نفسك وسط الزحمة في شارع مدينة سعودية كبيرة، وخلفك سيارة إسعاف توطوط وتزعق لأنها تنقل مريضاً في حالة الخطر أو امرأة داهمها الطلق، وعلى جانبيك سيارات الدفع الرباعي تزمجر وتقفز فوق الأرصفة فتقطع الطريق على الآخرين، وأنت تزحف مع الزاحفين لتكتشف أن كل هذه المعركة كانت بسبب سيارة خبطت أخرى من الخلف فعطلت طريقاً عرضه ثلاثة مسارات وطوله ثلاثة كيلومترات. المريض قد يموت قبل الوصول للمستشفى والحامل قد تلد في الأمبولانس، ومن المحتمل جداً أن تشاهد مضاربتين أو ثلاث بين المتنافسين على شريحة من الأسفلت، لكن الشيء الذي قد لا تراه هو سيارة المرور.
كم شتيمة أو حتى لعنة تعتقد أنها سوف تفلت منك قبل أن تصل إلى مقر العمل؟ بهذا المعنى يصلح المرور كمؤشر جيد على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والحضارية من الألف إلى الياء.