د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
المساجد بيوت الله تقام فيها شعائره، ويفترض بها أن تكون بيوت خشوع له وسكينة لعبادته. وتفرح الناس عادة بالسكن بالقرب من المساجد والجوامع تسهيلاً لأداء شعائر الدين. وازدادت ولله الحمد أعداد المساجد في الأحياء مع الطفرات العمرانية، ليس فقط نتيجة لتخطيط الأحياء الحديثة التي خصصت فيها مواقع مركزية للمساجد والجوامع، ولكن أيضاً بجهود أهل الخير الذين يتبرعون بأعداد مضاعفة منها، وفي هذا كله خير وبركة للمسلمين، بالرغم من بعض المساجد يوجد به نفر قليل فقط من المصلين نتيجة لتقارب المساجد.
واتفقت جميع المذاهب تقريباً على أنّ الأذان، وهو الإعلام بدخول الصلاة، سنّة واجبة، حتى ذهب بعض الفقهاء بأنه يجب جهاد البلدان التي لا يسمع فيها الأذان. وقال بعض الفقهاء بوجوب الأذان حتى ولو تلاصقت المساجد، أو بني بعضها فوق بعض. وللأذان والتكبير والتشهد روحانية خاصة محببة خاصة إذا ما صدرت من رجل صيِّت ذي صوت جميل. حتى أن بعض الفقهاء اشترط ذلك في المؤذن، تأسِّياً بأمر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بلالاً برفع الأذان، أن يكون صوت الإمام جميلاً. وقال بعض الفقهاء إنّ من موجبات الأذان وجوده من الشخص بذاته، فلا يصح من مسجَّلٍ أو مذياع أو رجال يتناوبونه. ومن مستحبات الأذان أن يرتقي المؤذن مكاناً عالياً يؤذن منه، وأن يضع أصبعه في أذنه ويلتفت يميناً ويساراً. ولذا وجدت المآذن في المساجد، واسمها مشتق من الأذان. والأذان هو الإعلام عن الصلاة للعموم، بينما الإقامة هي إعلام عن فعل الصلاة لمن هم خلف الإمام.
غير أنّ دخول التقنية لبلاد المسلمين غيّر كثيراً من هذه المفاهيم، وغيّر من شكل الأذان ومن بعض الأمور الأخرى، وهي للأسف تقنية دخيلة عليهم، لم يسهموا لا في تصنيعها ولا تطويرها. حيث اتخذ بعض المؤذنين من التقنية وسيلة لإعلان الأذان بأساليب جديدة، فأصبح الأذان يعلن من داخل المسجد وليس من خارجه، وبواسطة الميكرفون وليس بصوت المؤذن، واستبدل ارتقاء المكان العالي والالتفات يميناً وشمالاً بسماعات ضخمة تصدح في الاتجاهات الأربع بصوت مرتفع جداً، وبمؤثرات صوتية كالتفخيم والصدى المنتشر، وغيرها مما يزيد من قوة صوت الأذان ويقلل من روحانيته وطلاوته. ولم يَعُد على المؤذن أن يضع أصبعه في أذنه بل أصبح بعض المستمعين من المرضى، والطلاب، وغيرهم هم من يفعل ذلك. ولم يَعُد هناك اشتراط لصوت المؤذن في أن يكون صيتاً وصوته جميلاً وأصبحنا أحياناً نسمع بعض الأطفال أو العمالة يؤذنون في غياب المؤذن.
والأمر لا يقتصر فقط على الأذان لأننا سنفترض جدلاً أنّ علو صوت المؤذن بالميكرفون 200 أو 300 وات هو البديل الجديد لقوة صوت المؤذن التقليدي الذي تميّزت به جميع الأحياء والبلدات في بلادنا، بل أصبحت الإقامة والأحاديث، وأحياناً حلقات الذِّكر داخل المساجد خارج وقت الصلاة ترفع بالأسلوب ذاته. وهذا بالطبع لا يستند على أي مفهوم شرعي أو سنّة نبوية بل اجتهاد من إمام المسجد يقصد به الطبع الخير للناس. ولكن المريض، ومن لا تجب عليه الصلاة قد يحتاج للهدوء وهو حق له وواجب على غيره، أكثر من الاجتهاد بإسماعه الأذكار وهو بعيد عن حلقة تدارسها. فالإسلام أمر بالتأدب وخفض الصوت، وهو دين نزل رحمة بالمسلمين ولا يجيز ما قد يسهم بضرر لهم، بل إنه قدم إزالة المضرة على تقديم المنفعة.
تذكرت كل ذلك وأنا أراقب طفلة صغيرة بعمر الأربع سنوات أصابتها حمى شديدة، وأخذ جسمها النحيل المنهك يرتعد من الحرارة بشكل لا يمكن السيطرة عليه بالخافض والأدوية، وبما أنّ الفترة شتاء، فلا يمكن أن يستعان بالمكيف، فأمر الطبيب بأن تبقى النوافذ مفتوحة لدخول البراد. ولكن المنزل يقع بين ثلاثة مساجد جميعها ترفع الأذان بشكل متداخل وبأعلى أصوات الميكروفونات بشكل يفزع الطفلة كلما سنحت لها من دائها إغفاءة قصيرة. وهي طفلة لا تميز الأذان من الأصوات الأخرى. بالطبع هذا لا يخطر ببال من رفع الميكرفون بالشكل الذي نسمعه ولا لمن يريد إسماع الحي قراءته وتمتمته قبل الصلاة وحديثه بعدها. وللشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - موقف ثابت من ذلك أيّده فيه كثير من الأئمة، فقد ذكر في إحدى خطبه: أيها المسلمون إنّ مما أنعم الله به على عباده في هذا العصر مكبرات الصوت التي تبلغ صوت الإمام لمن خلفه، فيسمعه جميع أهل المسجد، وينشطون في صلاتهم لذلك، ولكن بعض الناس استعمله استعمالاً سيئاً، فرفعه على المنارة، وهذا حرام؛ لأنه وقوع فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج على أصحابه وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة، فقال: كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن. ولأنه أذية للمصلين حوله في المساجد والبيوت، حيث يشوش عليهم القراءة والدعاء، فيحول بينهم وبين ربهم. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}. ويمكن حصول منفعة مكبر الصوت بدون مضرة بأن يفصل عن المنارة، ويوضع سماعات في داخل المسجد تنفع المصلين، ولا تؤذي من كان خارج المسجد... انتهى. فليت وزارة الشئون الإسلامية تفعل هذه الفتوى الجليلة، وتصدر تنظيماً ملزماً لاستخدام الميكرفون كمنتح حضاري بشكل حضاري.