لم تعد الدولة في الواقع هي الممسكة بزمام المعلومة للمواطن.. ولم تعد هي وحدها المصدر الأساس لتكوين الرأي العام وبلورة المواقف وتحديد الاتجاهات..
كان إعلام الدولة الرسمي أو شبه الرسمي في زمن مضى وانقضى - هو لا غير - منبع المعلومة للمتلقي في الداخل والخارج.. وما هو مهم هنا هو الداخل.. وبصرف النظر عن مصداقية تلك المعلومة من عدمها إلا أنها كانت في الأساس المنطلق لرأي ورؤية ومواقف المواطن نحو الدولة.. سياسة واقتصاداً.. قرباً وابتعاداً.. كانت هي في الحقيقة بوصلة تحديد اتجاهاته تجاه وطنه قيادة ومكونات.. أما في حاضرنا الماثل فالأمر مختلف كل الاختلاف.. تلاشى تأثير ذلك الإعلام إن لم يكن قد اختفى حتى ولو كان حاضراً صوتاً وحرفاً وصورةً.. لم يعد يلعب دوراً ملحوظاً في التأثير على المتلقي كما لم يعد المصدر الأساس للمعلومة والرأي.. لقد شهد الزمن متغيراتٍ كثيرة ومتنوعة بدءًا بالثورة المهيلة والمخيفة في عالم تقنية الاتصالات.. مروراً بانفتاح العالم على بعض حتى أصبح فعلاً قرية واحدة.. إضافة إلى توسع المعرفة وانتشارها إلى حد أصبح فيه المتلقي قادراً على الفرز الواعي بين الغث والسمين.. بين الصح والخطأ.. بين الحقيقة والزيف.. الأخطر من ذلك كله أن المواطن أصبح بفعل الانفجار الهائل في عالم الاتصالات صانعاً للرسالة وليس متلقياً لها فقط.. وبات شريكاً رئيساً في بناء الرأي العام مما قضى إلى درجة كبيرة على الإعلام الحكومي نتيجة عدم مواكبته للمتغير.. فهو - أي المواطن - يمتلك وسائل متحركة للصوت وكذا للحرف وأيضاً للصورة مما مكّنه أن يكون أسرع من وسائل الإعلام التقليدي في إيصال الرسالة.. وهنا تكمن الخطورة.. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذا النوع من التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحظى بمصداقية عالية.. تصل أحياناً إلى درجة التفوق على مصداقية الإعلام التقليدي وبخاصة في العالم حديث البناء وبالأخص في عالمنا العربي.. ذلك أن الإعلام العربي عبر تاريخه رسم له صورة ذهنية - بكل أسف - لا علاقة لها بالمصداقية وأنه إعلام مهمته البارزة الدعاية والخطابة المباشرة والترفيه.. فاقد للمفهوم الصحيح للإعلام ضعيف الاحترافية.. وهذه هي الصورة الذهنية المتجذرة في الذهن العربي.. ولا يزال هذا الإعلام التقليدي يصر على نهجه ومفهومه الخاطئ لمعنى الإعلام مما أدى إلى تأكيدها فانصرف المتلقي إلى وسائل التواصل الاجتماعي وإلى إعلام الآخر مما أضر بدور الدولة في قيادة مواطنها إلى ما يحقق أهدافها تماسكاً وبناءً.. بل إن الأدهى من ذلك والأمرّ هو أن هذه الوسائل أثبتت قدرتها المتناهيةفي تحريك المواطن باتجاه معاكس لما تريده قيادة الوطن وما ثورات الربيع العربي عنا ببعيد.. فقد تأكد أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت هي المحرك لتلك الثورات في ظل تقليدية الإعلام الرسمي وضعفه..
المشكلة - إذن - ليست هي في معرفة الحقيقة.. فهذا واقع واضح كالشمس فرض نفسه وإنما المشكلة هي إصرار هذه الدول على الاستمرار في تعاملها مع الإعلام القديم والجديد على ممارسة الدور ذاته.. بالفلسفة نفسها التي نشأ عليه هذا التعامل.. وبالمفهوم الدعائي الخطابي ذاتية.. وبالمهنية المتردية السائدة.. وكأن الزمن لم يشهد متغيرات مذهلة في الفكر والمعرفة والتقنية والتعدد التواصلي.. والسماء المفتوحة ليس لمن يملك المال والوسائل التقليدية المعتادة وإنما لمن يملك (الجوال) فقط.. لا زال الإعلام العربي أو بعضه يعيش الأمس بكل ما فيه ولا علاقة له باليوم.. لماذا..؟ هل المشكلة في المالك.. أم في المدير.. أم في المفهوم أو أنها المعرفة القاصرة في الحقيقة إنه سؤال محير ومصدر صداع لمن في الواقع يفكر.
المشكلة الأخطر تكمن فيما إذا فقدت الدولة - أي دولة - دورها في التأثير على رأي ومواقف وتوجهات مواطنها.. وأصبح المواطن نهباً للكم الهائل من وسائل الإعلام الجديد من منازلهم ومكاتبهم ومقاهيهم ومن الشارع ومن كل مكان الصادقة منها والخبيثة.. وبخاصة إذا تعلق الأمر بالمعلومة.. وفي الوقت ذاته لا يجد هذا المواطن إعلاماً موثوقاً لمعرفة الصح من الخطأ.. ولا خطاباً رسمياً ينير طريق التائهين بين الكلمة والصوت والصورة.. عندها يصبح هذا المواطن جاهزاً للتأثر بما يتلقى حتى ولو أدّى به إلى الهلاك.. وهذا ما حدث فعلاً في الكثير من الدول العربية كما نراه الآن.. وقد نرى مثله غداً ما لم يفق الإعلام التقليدي من سباته.. ويتم تصحيح المسار الإعلامي هدفاً ورسالة ومفهوماً وصناعة لكي يكون للمعلومة مصدر.. وللرأي مكون.. وللتوجهات مبلور بما يخدم أهداف الوطن ثباتاً واستقراراً وأمناً وأماناً.. والسلام.
- د.ساعد العرابي الحارثي