د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** من ينعي الإعلام الورقي عليه ألا يتأخر كثيرًا كي ينعي الإعلام الرقمي؛ فكلاهما يعيش مرحلة خمولٍ وتراخٍ وتضاؤل تأثير، وإذا كانت مبيعات الأول وإعلاناتُه قد تراجعت فإن الثاني دون إعلانات ولا مبيعات، والدمج بينهما حلٌ قريبٌ قد يعزز الضعفَ ويبدل التموضع، وعلى أقسام الإعلام في الجامعات أن تعيد النظر في مناهجها؛ فقد يتاح لها التفكير بنظريات جديدة تقلب المفاهيم السابقة حول الاتصال، وربما عادوا إلى نظرية «الووم» Word Of Mouth ليحاولوا التبديل في معطياتها كي يتلافَوا سلبياتها المتزايدة طرديًا مع فاعلية انتشارها؛ فالتناقل الشفاهي، ولو دون توثيق أو تدقيق، يتسيَّدُ الساحة المجتمعية، ومعظمه يتم عبر الوسائط الفردية التي يعنيها تسارعُ النقل وتكثيف رد الفعل.
** لن نعجب إن كان الأكاديميون غائبين عن المشهد المتبدل فظل القديمُ كما أصَّله منظرو الإعلام من لدن نظرية السلطة التي تُرضي الحاكم وتتجاهل الناس مرورًا بنظريات الحرية والمشاركة والمسؤولية الاجتماعية وغيرها، وامتدادًا نحو نظريات الاتصال كالتأثير المباشر والانتقائي والإقناعي وسواها مما اعتدنا دراسته وتدريسه.
** تبقى من هذه النظريات شتاتٌ بينها فكرتان قد يتأخر خروجهما من التداول وهما: مصادر التشويش وحارس البوابة؛ فالأولى ما تزال حاجزةً ضد سريان المعلومة بشكل نقي، والثانية تزيد في مدارات التدخل والتداخل حتى تفقد المعلومة بكارتها وبكورها، وفي الحالين تزيد الفوضى ويعظم التهميش فلا تبلغ الرسالة مستقبليها كما شِيء لها.
** في العالم المائج يصعب التفكير بالمخرج مثلما لم نعِ المولج، وقد يقسو على أذهان المخططين التنبؤُ بما يمكن أن تقف عنده براكين الاتصال المتفجرةُ عن جديدٍ يمحو جديدًا، ولكن الواضح -دون ضبابية- أن الإعلام بصورتيه التقليدية والرقمية لم يعد يحمل التأثير الذي كانت تنتجه قناة واحدة أو مذيع أوحد أو كاتب ذو حظوة في المدارات المتحكمة.
** صار دور الإعلام اليوم تأكيدَ عدم المصداقية Uncertainty فلا أمرَ مؤكدٌ مهما تضافرت المصادر التي تُعدُّ موثوقة؛ إذ لكل اتجاهٍ معاكساتُه، كما لكل حكاية رواتُها وتناقضاتها، ولعل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة قد وضعت الوسائط الأهم في مأزق المفاجأة حين تنبأت بما صادم الوقائع، متكئةً على ما بثته من دعايات وما أجرته من استطلاعات شابها خلل التحيز وشلل البدائل وبات السقوطُ مصيرَ كثير من الأفكار التي سادت خلال مائة عام قضت.
** هل نحن بحال أفضل؟ أم هل مآلنا إلى الأفضل؟ لا أحد يستطيع النفي أو الإثبات غير أن المبادئَ لم تعد ذات وهجٍ كما كانت فلم يسقط المنظرون وحدهم بل تساقطت الأخلاق، وهنا المعضلة التي لا يستعيدُها مُتاجرٌ همُّه الانتصار لذاته أو لأدلجته أو لمنظومته ومصالحه، وهو إيماءٌ إلى الأكثرية التي تستغفل وتستغلُّ فتسيطر وتتصدر.
** التقنية تيارٌ والإنسانُ متقلب.