د. محمد بن إبراهيم الملحم
تناولت برنامج «حسِّن» في مقالتي السابقة وأشرت إلى أنه مدخل مهم لحل أزمة التقويم المستمر وينبغي استثماره بطريقة صحيحة للارتقاء بالتقويم المستمر وأبسط مبادئ الاستثمار هو وضع تصور صريح الدلالة حول دور «حسِّن» كتقييم معياري في مصير أداء المعلم، فلا يكفي أن تراوح أدبيات المشروع كما قرأتها سواء في رؤيته أو أهدافه حول عبارات «تخطيط البرامج الصفية» أو» توجيه الفعاليات الإشرافية» أو «لرسم البرامج التدريبية المناسبة لاحتياجاتهم».. إلخ دون أن تصور للمعلم ما سيكون عليه أمره حال استكشاف تهاون مهني لا مجرد ضعف مهاري لديه. وهذا المنهج في تجنب ما يمكن أن يكدر المعلم هو موروث مفاهيمي لدى الإشراف التربوي في الوزارة بعد تغيير دوره قديما من التفتيش والتوجيه إلى الإشراف والتدريب، وأدعوه اليوم إلى التخفف منه وصياغة ما يناسب بيئتنا وظروفنا التعليمية في بلادنا فليس كل ما في الثقافات الأخرى ملائماً لنا عندما نقارن المعطيات الثقافية والسياق الاجتماعي وظروف المنظومة الإدارية لدينا بما وصل إليه الآخرون، كل ذلك يدعونا إلى توظيف المفاهيم الحديثة بمواءمة ذكية تفعل العمل بطريقة وظيفية فعالة دون خوف أو وجل وبعيداً عن أية تنظيرات معقدة تقوم على النسخ واللصق المباشر.
لقد فكرت مليا في كيفية تحسين «حسّن» ليتسنى استثماره كما ينبغي له، فهو أسلوب جيد للتعامل مع شكلية التقويم المستمر، وتوفرت لدي معلومات دقيقة من واقع الميدان بالتواصل مع زملاء تربويين ومعلمين فضلاء ومن خلال قراء المقالة سواء عبر الاتصال أو تويتر وتبين لي أن المشرفين التربويين لا يشرفون على التطبيق! وطوال السنوات السابقة لم ترد لإدارات التعليم من الوزارة أي تحليلات لنتائج هذا الاختبار تهدف إلى تحسين عملية التقويم المستمر! وظهرت لي المعضلة الكبرى التي أرقتني كثيرا وشلت تفكيري حيث تكشفت عدة نقاط: فالمعلم هو من يطبق الاختبار لا معلم آخر كما نص عليه الدليل الإجرائي! كما أنه هو من يصحح الأوراق ليس لجنة كما ذكر الدليل الإجرائي! بل وتكشف لي أن هناك من الهيئة الإدارية بالمدرسة من يوصي المعلم أن يختار أفضل طلاب فصله ليطبق هذا الاختبار عليهم فيكسب الوقت في سرعة التصحيح! وأيضا لن يضطر إلى إعادة الإختبار إذا نقص أداء الطلاب عن 50 % كما تطالب به تعليمات البرنامج (لا أعلم لماذا الإعادة!) وفي بعض الإفادات الصريحة بلغني أن هناك معلمين يكتبون الإجابات على السبورة ويمسحونها بعد إطلاع الطلاب ملياً عليها ثم يوزعون أوراق الاختبار!
بعد هذا توقف تفكيري عن بحث كيف يمكن تحسين «حسّن» فالأمر جلل، مستحيل أن الإشراف التربوي بالوزارة وهو الجهة الراعية للمشروع لا يعلم بهذه الممارسات فهم منا وفينا ويعيشون بيننا فكيف صبر على هذا البرنامج بهذه الصفة طوال هذه السنوات؟ لماذا الجهد والمال المبذول؟ بل السؤال الأكبر والأساس: ما العائد طالما لا توجد تحليلات وظيفية للنتائج؟ أسئلة كثيرة جداً جداً تلح على من يتأمل الأمر. بالنسبة لي، فلا يشكل هذا مفاجأة صاعقة فقد مررت تاريخياً بمثل هذه البرامج الشكلية في الوزارة الموقرة لكن المحزن هو استمرار هذه الثقافة التنفيذية كل هذا الأمد وأخشى أن تستمر دهوراً قادمة، وأخشى أن يسري الفيروس إلى قطاعات أخرى مهمة.. ولن أستغرب.. فقد تخرجت إلى الآن عدة أجيال من الطلاب والطالبات ظلوا طوال سنوات عمرهم يشاهدون أشكال الهياط التربوي يطبق عليهم في المدارس باسم التطوير والتحديث فترسخت في نفوسهم قيم عمل متدنية تقدر الشكلية وتراها منتجاً يستحق التصفيق فماذا هم فاعلون بعد تخرجهم وأخذهم أدواراً وظيفية في خدمة الوطن غداً! بل إن هذه الشكلية تخرج على يديها معلمون ترقوا إلى مشرفين ومديرين ومسؤولين ليأخذوا دورهم في الاستمتاع بلعبة التطوير الشكلي وعائداتها سواء كانت مادية أو وجاهية أو حتى مجرد تصفيق ساذج يدغدغ مشاعر أنانيتهم وذواتهم الناقصة، متى تنتهي التربية السلبية العكسية.. متى ينتهي هذا كله؟!