د. خيرية السقاف
اقتربت مني «زهرة» وعلى قدميها الرقيقتين تحمل عقداً من السنوات ونيف, يوماً تلو يوم تراكمت فوقهما, وجهها وردي, وبسمتها تضجُّ برونق اسمها, كنا في الطريق للعمرة, صديقتي التي ترافقني أمُّها زميلة عمل, قطعنا معاً مسافات من مكاتبنا إلى حجرات الدرس الجامعي, وتصلبت أقدامنا في مراقبة «الممتحِنات» أواخر الفصول الدراسية سنين طويلة, كدنا في آخر لقاء هناك أن نبصم بأنّ أرض الجامعة, وجدرانها لن تنسانا يوماً, بل لن تتبخر أصداؤنا فيها!!
«زهرة» وأنا أستعيد شريط الأيام رفقة أمها هزّت كفي التي كانت تقبضها إليها قالت: هل يعجبك اسمي..؟!
تنبّهت إليها بسرعة : أجل, وهل أجمل من اسمك اسمٌ يا زهرة.؟
«لكن اسمي لا يحدد لي نوع الزهرة التي قصدتها «ماما», وكلما سألتها عنها أجابتني بابتسامة, وضمّتني إليها وهي تقول: أنت كل الزهور أنتِ»!!..
نعم, كل الزهور أنتِ يا زهرة..
سنواتها الأربع عشرة, وذكاؤها, وتفوُّقها الدراسي, وثقافتها, لم تكن كافية لتخرجها من حيرة أيّ الزهور كانت أمها تعنيها حين اختارت اسمها, وظلت تلاحقها هذه الرغبة في تحديد نوع الزهرة التي في النهاية تكون الشبيهة الحاملة صفتها هي إلى أن التقتني, وظنّت أنّ لديّ الإجابة الأكيدة , حيث تعرف أنني كنت أول من رآها عند مقدمها للحياة, وأول من أفضت أمها إليه باسم مولودتها في المصحة, .. سمعنا معاً صرختها الأولى..
وصلنا للمسجد الحرام ولما بعد استقرت زهرة على ما تريد..!!
أمها تضحك, وأنا أشاغلها بأسماء كل الزهور التي خطرت ببالي, حتى أقلقنا الحديث تهيئة للتكبير, والتهليل, واستعداداً للدخول ..
في المسعى , نمشي معاً متجاورات بيننا زهرة, تتقدمنا تارة, وتتساوى معنا تارة أخرى, تهمهم بالذِّكر تارة, ويتضح ما تقول لنا تارة أخرى..
دعت كثيراً لربها أن يوفقها لتصبح طبيبة, ثم لم تخفت صوتها وهي تسأله أن يشفي جدها, ويرزق أباها مالاً كثيراً, وكنتُ كلما تذكرت سؤالها عن اسمها أتبسّم, فتدرك الإشارة,
في الشوط السابع للسعي, هوّنت زهرة مشيها لتكون بيننا حذو الخطوة ..
وأسرعت في الدعاء إذ بقيت مسافة قصيرة لانتهاء الشوط السابع ونبلغ المروة ..
سقط صوتها في أذني وهي تناجي بحنو, وود, وخشوع, ورجاء ربها : « يا رب اجعل ماما تناديني زهرة البنفسج»...!!
في العربة ونحن عائدون, ضممت كفها بيدي, قلت لها اسمعي يا بنفسج, وقبل أن أتم كلمة أخرى شهقت باكية, تقفز جالسة, رددت بسرعة وفرح: الحمد لله, الحمد لله, «شوفي يا ماما ربي فعلاً سمعني, وقريب, وأجاب دعائي» ..
وأمها بدهشة تقلب نظرها بيننا, ووحدي من يدري سر بهجتها العارمة..!
في المطار وهما تغادران, كانت آخر كلماتها لي وعداً بالعودة لعمرة أخرى , فقد دعت ربها أن تعود لمكة, وإنه سيجيب..!!
بينما همست لأمها أن تناديها كما تحب ..
زهرة البنفسج ستعود, وإنني في انتظار عودتها..!!