ما أصعب الموت وما أقساه حين يكون مفرقاً بين الأحباب، وهادماً للذات، ومشعلاً للأحزان، ومطفئاً للمسرات والخيرات! وما أحلاه حين يكون شهادةً في سبيل الرحمن! وما أجمله حين يكون راحةً من عذابات الدنيا، وآلام وأوجاع الأمراض بالانتقال إلى رحمة الله في جنات عدن! كم هو مؤلم فقد القريب، وموجع بعد الحبيب وقاس تذكره! ففي العشرين من صفر تمر الذكرى الرابعة الموجعة لرحيل زوج أختي أبو حسين علي بن علي المطاوعة - طيَّب الله ثراه - بعد معاناة سبعة أعوام عجاف مع الأوجاع والأمراض جعلها الله كفارة لذنوبه.
عاش - رحمه الله - يتيم الأب مكافحاً، معتمداً على نفسه الأبية منذ نعومة أظفاره، فقاسى من ضيق ذات اليد، متعففاً عما في أيدي الناس بالعمل بأجر زهيد في مهنة آبائه وأجداده النجارة عاملاً عند غيره بجد وإخلاص، فلما برع فيها انتقل إلى الدمام؛ ليفتح منجرته الخاصة في حي الدواسر، فنجح وطبقت شهرته الآفاق حتى أصبح اسمه كأنه علامة جودة يقبل عليها القاصي والداني.
عاش - رحمه الله - بسيطاً، فلما أقبلت عليه الدنيا لم يغتر بزخرفها، فبذل من وقته، وجهده، وماله في مساعدة الناس. كان مضيافاً، لا يُغلق بابه حيث كان بيته بمثابة ديوانية تواصل اجتماعي وصلة رحم بين أهله، وأقربائه، وأصدقائه، وجيرانه، ومعارفه.
عاش - طيَّب الله ثراه - أمياً، إلا أنه عرك الحياة، فجال وصال فيها، حتى أصبحت مدرسته وجامعته، فعرف رجالها وسبر أغوارهم بفراسته وفطرته التي لم تغيرها بهرجة الدنيا وزينتها، فصار نسيجاً وحده - من زمن الطيبين - كما يقال!
عاش - رحمه الله - متديناً بفطرته معتدلاً، مراعياً الرزق الحلال مكتفياً بالربح القليل في عمله، فأحبه حباً جماً كل من عرفه وتعامل معه؛ لوضوحه وصدقه، وصراحته، وعدم تلونه، فتربع على عروش قلوبهم بجميل أخلاقه وسجاياه، وحسن سيرته، وطيبته، وكرمه، وبياض قلبه ونقائه حتى بقي حياً في قلوبهم:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أحياء
في العشرين من صفر عام 1434 حين سمعت بموته صار حالي كما وصفه الشاعر:
أطرقت رأسي لما قيل قد رحلا
أغمضت عيني، وقلبي خافق وجلا
لا لوم، إني جريح، والجريح له
عذر، وكم من جريح بالبكاء سلا
يقال إن ألم الفقد يضعف ويتلاشى مع مرور الزمن، وأن الوقت يداوي الجروح، لكن ألمي لفقده هيهات أن يقل أو يتلاشى، فليس في الدنيا ألم أعظم من فقد عزيز ترك بصماته في غيره، فالكثيرون يرحلون، والقليل منهم من يترك بصماته ومنهم أبو حسين المطاوعة فلا زالت ذكراه تشعل في قلبي الحسرة والألم:
تمر في خاطري ذكراك دامعة
والنار توقظ في أحداقي ومحبرتي
هي السنون أمامي تستحيل لظىً
تغتالني، وتصب الزيت في رئتي
أكاد أصرخ من صمتي الطويل على
حزني، وقد ملَّت من الإبحار أشرعتي
أواه من ظمأ الذكرى ولسعتها
كيف السبيل استحال المدى قبراً بذاكرتي
أربعة أعوام عجاف على رحيله هي نزر يسير من عمر الزمن، لكنها في عمر ألم الفراق جد طويلة. فكل دقيقة منها غصة، وكل ساعة خفقان قلب، وكل يوم منها آهات وأنات لا يسكِّنها إلا رؤيته وتشنيف الأذان بالحديث معه ولو في الأحلام. فإنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا أبا حسين لمحزونون، ولله ما أخذ وما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
يا أبا حسين فلتقر عينك أنك باقٍ في قلوبنا بفلذات كبدك الكرام البررة وأمهم الغالية، وسيرتك العطرة.
إننا نبكيك دمعاً، ونتذكرك ألماً، ونفتقدك شوقاً، ونرجوك بين طيات الأيام، ونكتبك فقداً، وسنبكيك شوقاً، وضعفاً، وعجزاً عن الالتقاء بك. فـ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
إن أجمل هدية نهديها لأبي حسين الدعاء له بالرحمة والغفران، وأن يتقبله ويحشره في مستقر رحمته مع الأنبياء، والصديقين، والشهداء وحسن أولئك رفيقا. فالسلام عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً.
- علي صالح الفهيد