في ليلة ربيعية صافية من ليالي العاصمة وتحت نجوم تتلألأ فينعكس ضوؤها على فناء قصر قديم شُيد قبل مئات السنين فتشم عبق رائحة أجدادنا متخالطة مع رائحة الطين, صوت شجي يصدح من إحدى زوايا ذاك القصر التاريخي, ترتفع نبراته لتشد انتباهي وتعيدني إلى المكان والزمان، فالمكان «أحد قصور المربع التاريخية، ديوانية نحن تراثنا» والزمان ربيع عام 1437هـ.
يا ترى هل خالفت أسلوب المقال الصحفي في السطور السابقة، إنَّ الذي دفعني للتعبير بأسلوب مغاير عن عادتي مع الأحرف هو طبيعة هذه الديوانية التراثية المتوحدة بمقرها الطيني الشامخ في وسط المدينة، شاهداً على حقبة زمنية من تاريخنا تشع مجداً وفخراً، وساحته تتناغم بجمال مكوناته وبساطة تتناسب مع موضوع الأمسية، فيجبرك الخيال على أن تعيش في زمان وقصور الدولة الأموية أو بين ظلال حدائق الأندلس.
شدَّ أ. د سعد الراشد الرحال في محاضرة «ديوانية نحن تراثنا» ليسافر بنا على دروب قوافل التاريخ والحضارة
ويصطحبنا معه لنكشف اللثام عن درب زبيدة، وإذا بالراشد يقود القوافل ليقطع المسافات وتنوخ جِماله بين «برك» ذاك الدرب و»أميالة» وينهض بجِماله ليعيد الكرة مرة أخرى ويقطع «المرحلة» و»البريد» لنلقي الرحال وتكتمل الرحلة في البيت العتيق، فإن عجز الخيال عن رسم صورة ما أبدعه المحاضر من معلومة، فالعين تلتقط صوراً أبدعها فنان ترتسم على الشاشة، نصبت في «ليوان» القصر ليتكامل سرد القصة بين الخيال والواقع. ولأنَّ المكان يسحرك بجَماله وروعته، فقد تناغم الراشد مع هذه الأجواء وتخلى عن أوراقه العلمية وأسلوبه العلمي الرصين وتركها جانباً, وتحدث من القلب ليصل قلوبنا مباشرة, فللراشد مع درب زبيدة عشق وذكريات، وبذلك فقد تخلى عن شخصية العالِم وغيَّرها إلى فنان يرسم معشوقته أو عازف ينثر أنغامه, فأسر آذان وقلوب حضور الديوانية، فتولد تفاعل إبداعي أضاف لأمسية الجمال جمالاً جديداً. إلا أنَّ للمضيف هذه الليلة دور السبق والريادة, فجمعية «نحن تراثنا» حسب ما تسعى إليه, تؤكد أنَّ الحفاظ على تراث وآثار المملكة واجب علينا جميعاً، إلا أنَّ تميز هذه الجمعية الفتية يكمن في إحياء وتفعيل مقرها الذي هو رمز تاريخ قائم بحد ذاته, فلم توصد الأبواب وتمنع الزوار بل تمَّ فتحها بكرم وأشعلت نار حاتم, ليصبح هذا البناء الشامخ منارة للتراث من خلال تفعيل هذا البناء التاريخي وإعادة دوره للحياة ليمارس مهمة جديدة في تاريخ هذا القصر الشاهد على أدوار متتابعة في حقب زمانية غابرة. جنت جمعية «نحن تراثنا» من الغنم سهمين، سهم إحياء قصر من قصور المربع التاريخية، وسهم نشر تاريخ درب زبيدة, فلله دركم على إبداعكم, لا أخفي شوقي للديوانية الثانية من هذا الموسم لأُحلّق مع طائر جمعية «نحن تراثنا» إلى ركن من أركان حضارة جزيرة العرب خاصة بعد أن وعد مدير الجمعية بافتتاح الأمسية ببرنامج ثقافي زاخر, فشكراً لجمعية المحافظة على التراث، شكراً «نحن تراثنا».
- د. الوليد العيدان
aleidanwa1@