د.عبدالله الغذامي
منذ ظهور تويتر وفيس بوك، ونحن نشهد حالا ثقافية تكشف أن الكتل البشرية ليست على خط واحد قابل للسبر، والرأي لم يعد ممكنا أن نضعه في تصور واحد نطمئن على وصفه بالرأي العام، والواضح أننا أمام آراء عامة وليس رأيا واحدا عاما، ونشهد حقا سقوط فكرة الرأي العام وفكرة سهولة رصده، وعمليا رأينا استطلاعات الرأي التي جزمت ببقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وقبلها قالت بهزيمة ديفيد كاميرون في الانتخابات، ثم رأينا تسعة استطلاعات في أمريكا قالت بفوز هيلاري، والنتائج في الحالات كلها جاءت مناقضة.
تظل الاستطلاعات تدفع نفسها لتصور وحيد وتذهب تلقائيا لشرائح تعودت على التواصل معها، وتغفل عن المتغيرات والتنوعات التي يتبدى أنها صامتة، إما لأنها ترفض التعاون مع مؤسسات الاستطلاع، أو لأن المؤسسات لم تضعها في جدول حساباتها، وهذا يعني أن التنوع أكبر من أن يحصر بعينات، ويعني سقوط فكرة العينة، بما إن التنوع أكبر من أن تستوعبه عينة استطلاعية مهما حاولت المؤسسة أن تلتف على الاحتمالات، وتظل النتائج تفاجئ منظمي الاستطلاعات، بمثل ما تشعر الجماهير بأنهم خدعوا لأنهم حلموا بأماني وتصورات لما هو متوقع ثم تبين أنها خادعة.
هذه ظاهرة جاءت مع زمن ثقافة الوسائل حيث جرى تمييع القوى الفاعلة، وتكاثرت الظباء على خراش فما يدري ما يصيد، ولم يعد الرأي خاضعا لمؤسسة مهيمنة تصنع التصور وتوجهه، ويكفي أن نأخذ مثالا صارخا أن 229 جريدة أمريكية يومية كانت تقف بصف هيلاري ضد ترامب وبعبارات صريحة وقوية، إضافة إلى عدد من الفضائيات لدرجة جعلت ترامب يتكلم عن مؤامرات ضده، وعن مخاطر لتزوير الانتخابات، وكل هذا الحشد المؤسسي لم يفلح في صناعة أثره، وحصل ترامب على أعداد كبيرة، مثلما حصلت هيلاري على أعداد كبيرة أيضا، وبجانبهما أصوات قاطعت ولم تصوت، وهذه ثلاثة شرائح، وثلاثة كتل تمثل أصواتا وتمثل آراء.
هنا نشهد المتغيرات الثقافية الضخمة التي تنوعت من جهة وأيضا كشفت عن رفض لكل ما هو مؤسسي، من مؤسسة الاستطلاع إلى صحف المؤسسة وفضائيات النخب الإعلامية، وتحليلات المحللين الذين صاروا تقليديين وصاروا آخر من يعلم. ويبقى التنوع هو المعنى الزئبقي لطبيعة الدلالات الثقافية الراهنة.