علي الدميني
يقول فرويد - عالم التحليل النفسي - (إن آخر من يموت على هذه الأرض هو «الشاعر»)! وحين نجيل النظر متسائلين عن السبب نجد أن أحد أبرز الإجابات يكمن في وهج الحلم والإيهام الفني وجموح الرؤيا التي تسكن في أعماق متخيله الشعري الذي يتنامى باستمرار - رغم كل إكراهات المعيش - وكأنه يعمل ضد بلوغ حافة النهايات والفناء.
أما «باشلار» فإنه يعمق هذا المعنى بقوله في كتابه: «الخيال والحركية»: (إن إبداعية المتخيل تكمن في إخراج اللغة من الوجود المخزون إلى الوجود المرئي؛ إذ تظهر قوة حركية الخيال ودوره في تحويل المتعذر الإفصاح عنه إلى إمكانية مفتوحة الأبعاد على البوح.. على قول الجديد.. وإنتاج الصور المتوقدة التي تصدمنا).
وإذ نسلم بداهة بأن لكل جملة شعرية أو قصيدة متخيلها الشعري الذي يعبر عن الخبرة الجمالية بالواقع، عبر دينامية اللغة وممكناتها في التشكيل والنسج والبناء، وعن تمظهرات الرؤية الثقافية والإنسانية للشاعر، في دلالاتها المشعة ومن خلال وظيفيتها كخطاب، إلا أننا، ونحن نقرأ تجربة غنية وطويلة للشاعرة، لن نجد الحيز الكافي للوقوف على متخيل كل قصيدة أو ديوان كامل وحده. بيد أن سمات عامة لذلك المتخيل ستعيننا على الوقوف على ينابيعها المحفزة لحركية الانفعال والإبداع، التي نراها متخيلاً شعريًّا عامًّا وناظمًا أوليًّا له، في عدد من الدواوين التي تنبني دينامياتها الداخلية والتعبيرية على ملامح مشتركة في انهماماتها الرئيسية، تشكيلاً ورؤيا. لذلك ذهبنا إلى تحقيب التجربة وينابيع مخيالها عبر ثلاث مراحل.
وقد وقفنا في الحلقات الثلاث الماضية على المرحلة الأولى التي تبدت منذ ديوانها الأول «إلى متى يخطفونك ليلة العرس»، الصادر في عام 1975م، وديوانها الثاني «قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي»، الذي نشرته في عام 1984م.
ويمكننا أن نشير إلى تقاطعات وتجاذبات مخيالها المشترك التي انبنت على جدل علاقات الداخل بالخارج، وتعالقات الهم الذاتي للشاعرة - كامرأة ومثقفة مقموعة في العالم الثالث - مع الهم الوطني والقومي والإنساني، خاصة في تجاذباته اليومية مع القضية الفلسطينية، التي شكَّلت في شعر الحداثة العربية رمزية للمقاومة وللتحرر والتحرير والتقدم والنهوض الحضاري العربي؛ ولذلك، وبالرغم من انحياز الشاعرة المبكر إلى اجتراح كتابة قصيدة النثر، إلا أن قصائدها في تلك المرحلة تنتمي دلاليًّا وجماليًّا لتجربة قصيدة التفعيلة العربية التي تبلورت منذ الستينيات حتى تسعينيات القرن المنصرم.
وحيث كان صوت الشاعر الداخلي - ولا يزال - هو البؤرة المركزية لفاعلية تحفيز مسارات النص، وهو الأكثر ارتباطًا بحرارة التوليد والانفعال وتضفير الداخل بالخارج، فإن الشاعرة في مرحلتها الأولى قد انتمت إلى مرحلة «الغنائية» الممتزجة بروح الواقعية النقدية، المرتكزة على فاعلية معنى ورمزية «الهوية» وتبدياتها في مختلف المجالات الحياتية، «لتبرز الذات كعلاقة جدلية - من خلال الخطاب - بين الفردي والجمعي، وكذلك في ما يتعلق ببروز سمات الخطاب التواصلي ومقاصد التلقي والتأويل» - بحسب خلاصة كلام شاكر سيفو-(1)
وهنا ترسو طيور الشاعرة، بعد ذلك، على سواحل «التأملية»، المتسمة بالإيغال في تحرير «الدال» وانفتاحه على طاقات دلالية جديدة، لا يحتكر فيها الواقع اليومي والسياسي وحده مفاتيح المرجعية أو التأويل، على الحقيقة أو المجاز، بل تنحاز المرجعية الجديدة صوب تخييل عالم متعال، تحاول اللغة الشعرية عبره استعادة بكارة العلاقة بين الأشياء والكلمات، في مرحلتيها الثانية والثالثة.
المرحلة الثانية:
وقد انبنى هذا السياق الجديد في تجربة الشاعرة على عملية وضع مسافة بين الذات المتأملة ومركزية بؤرة النص الواقعة في منطقة ما من المتخيل الشعري المتعالي على الذات والواقع، بحيث نصغي بحميمية إلى «تأملية» عقلنة وشعرنة الأفكار والرؤى من خلال شذرات تتبدى فيها الحكمة، والبعد الصوفي، والسطوع السحري والفنتازي، والفلسفي، وبما أسماه كمال أبوديب، بـ«التخليق الرمزي للأشياء والموجودات، التي تثير التوتر والتدفق الشعري بين الفجوة ومسافة التوتر».
لذلك نرى الشاعرة وقد مضت في طريقها إلى مغادرة خيمة حداثتها الشعرية الأولى، دلاليًّا وجماليًّا؛ لتنحاز إلى أنساق قصيدة النثر العربية المتأثرة بسياقات قصيدة النثر الأوروبية والعالمية، المنتمية إلى فضاءات ما بعد الحداثة، جزئيًّا في مرحلة الشاعرة الثانية التي أسميناها «التأملية» وكليًّا في مرحلتها اللاحقة التي وصفناها بـ«الشيئية»!
ولعل من المناسب في هذه القراءة أن نشير إلى أبرز السمات المؤسسة لهذه القصيدة، التي خطتها «سارة برنار» في كتابها الشهير «قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم»، والتي أفاد منها «أدونيس» كثيرًا في تنظيره واشتغالاته المعمقة على تبيئة جماليات قصيدة النثر في سياقات الشعرية العربية، التي نلخصها فيما يأي:
«- الإيجاز: وتعني: الكثافة في استخدام اللفظ سياقيًّا وتركيبيًّا.
- التوهج: وتعني الإشراق، أي يكون اللفظ في استخدامه متألقًا في سياقه، كأنه مصباح مضاء، إذا استبدلناه بغيره ينطفئ بعض البريق في الدلالة العامة وفي الجمال التركيبي النصي.
- المجانية: وتعني اللازمنية، أي يكون (النص) غير محدد بزمن معين، فالدلالة متغيرة، حسب السياق والرؤية والتركيب، وتكون قصيدة النثر ذات دلالة مفتوحة، يمكن أن تفهم على مستويات عدة.
- الوحدة العضوية: وتعني أن يكون النص كلاً واحدًا، (خارج) وحدة البيت، ويكون النص كله وحدة واحدة، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن أي جزء من أجزائه».(2)
ماء السراب والقصيدة التأملية
في الإبداع، خاصة في الشعر، لا يتجاوز الشاعر سمات بنيوية راسخة في تجربته دفعة واحدة، وإنما يقوم بعمليات تجريبية عبر الزمن لإنضاجها، بذرة بذرة، حتى يكتمل تخليقها المغاير أو المختلف. وفي الديوان الأول للشاعرة نصوص قصيرة ومكثفة، عاطفية وحسية، شديدة العذوبة والجمال، أشار إليها شاكر النابلسي في كتابه «نبت الصمت». وهو ما لم أقف عليه في الجزء السابق من قراءتي؛ لأن تلك القصائد تقع في مكان المهمش والمنسي، إزاء توهج المتن الأساس واشتغالاته الأبرز على مستوى الوجدان الذاتي وتعالقاته الاجتماعية والسياسية.
غير أننا وقد وصلنا إلى مرحلتها الثانية الحافلة بتشعير الجانبي والمغفل والمهمش والمسكوت عنه، ومغادرة الملحمي في أبعاد الهوية، وتعدد بؤر توهجات القصيدة، إلى حالات التكثيف والقصر، والوحدة الموضوعية، واللازمنية، والتأمل الداخلي الصرف، سنشير إلى عناوين عدد من تلك القصائد، منها: الركض في عينيك، عندما يقول صمتك أحبك؛ لتعرف رفيقاتي، وشهقة اللحظة، وغيرها مثل قصيدة «أحبك الله» التي حذفتها الشاعرة من طبعة المجموعات الشعرية. وفي هذه النصوص نجد الخمائر الأولية لتجربتها اللاحقة، خاصة في هذا المنحى الوجداني الحسي، والمكثف والمتبرج في كنائيته، من مثل هذه اللمحة في «شهقة اللحظة»:
«اللحظة
جلد الإنسان أصغر من مساحة قبلتي
إنني آكل شفتي!».
وفي ديوان «ماء السراب» يغدو العنوان كعتبة أولى للنصوص دالاً على معنى السراب في اللغة التداولية التي أبدت موقعه كاستحالة، وعلى ضده المتمثل في التشبث بطاقة الحلم المتمردة على كل المواضعات، وجعله ممكنًا. وفيما يتعلق بالبعد الحسي (المشار إليه آنفًا) المتجسد في جمالياته الاستعارية المدهشة في العديد من قصائد «ماء السراب» نقف على أنموذج منه في هذا النص:
«مجاسدة»
من شرفة شقتهم الضيقة كنعش
تدلي جسدها الفاره كعرش
وتغسل شعرها في النهر البعيد» (3)
إذ تشتعل الاستعارات المكثفة في دلالاتها التي تراوح ما بين الاستحالة والإمكان، عبر توازي مفارقاتها وحلمية تقاطعاتها في جسد القصيدة، بتوهج فاتن لا يمكن معه استبدال كلمة بأخرى أو حذفها، مختزلة بذلك درامية ملحمة عذاب إنسانية طويلة في ثلاثة أسطر فقط!
وهذا الديوان يعبِّر عن مرحلة أخرى في أنساق بنى التشكيل والرؤية والرؤيا، فنقف على نضوج تجربة التكثيف واللازمنية، عبر عمل الشاعرة على تحويل السمة السردية في بعدها الملحمي، وتعددها الانتشاري في خارطة النص، الذي عرفناه سابقًا، إلى كثافة الحكمة أو سيميائية الإشارة.
غير أن أثرًا ما لا يزال يلمع كوشم مشيرًا إلى بعض خصائص متخيل مرحلتها الأولى، سواء من خلال دال «العنونة» أو دلالات ينابيع ذلك المتخيل الذي انشغل بعقد جدل العلاقة بين الذات وحركية الواقع، مثل نصوص «بلاد، وطن، قصيدة النساء، هزائم ذاتية، وغيرها».
وإذ يحيلنا مخيال العناوين إلى الذاكرة الحركية التي تستعير ملحمية السرديات، في ديوانيها الأولين، إلا أننا نفاجأ بأن نصي «وطن، وبلاد» قد أصبحا شكلاً من أشكال التواقيع القصيرة المتجلببة بالحكمة أو مسوح الفلسفة، أو تخليقًا لقصيدة الوحدة الموضوعية والسطوع شديد التركيز.
تقول في نص «بلاد»:
شعرها طويل.. طويل.. طويل
تلف طرفه على مشط رجلها وهي واقفة
أصابعها
طويلة
طويلة
طويلة
تقطف نبق السدرة وهي جالسة في خدرها
تستحم بمطر يفور من حجرها
وتحلم. (المجموعات الشعرية - ص 192)
في هذا النص يتم تعويم «دال» العنوان، عبر «تنكير» الاسم «بلاد»، أولاً، ثم من خلال ذهاب الشاعرة إلى ممارسة لعبة التكوين البصري للقصيدة؛ إذ ترسم الكلمات على هيئة شجرة (نخلة، أو سروة، أو سدرة)، وثالثًا من خلال الانزياح الاستعاري عن كنائية العنوان لبناء متخيل متوهج ببعده التمثيلي الموازي له، عبر رسم صورة فتاة تجلس تحت السدرة بأصابعها الطويلة، وهي تمشط شعرها وتستحم بمطر (بترول)، يفور من حجرها، دون أن تفعل شيئًا، سوى أن تحلم!!.
لكننا بعد إكمال القراءة سنرى العنوان وقد استعاد مكانه الكنائي في النص؛ ليشف عن البعد التراجيدي للقصيدة المكثفة، الذي يقودنا لطرح هذا السؤال: أي فاجعة هذه لمثل صورة تلك البلاد؟
وضمن هذا المسار تأتي قصيدة «وطن» على هيئة كبسولة صغيرة، تم تضفيرها بحكمة التأملات وحرائق التساؤل.
وطن
«هل هذا وطن؟»
أم طوفان لم نحتط له؟» (المجموعات الشعرية - ص 196)
والتساؤل في شعر فوزية منذ ديوانها «إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟» ما زال نهرًا لا تستنفده الكتابة، سواء في مقالاتها أو في شعرية نصوصها، لكنه في قصائدها القصيرة كالنص السابق، يعمل على تعميق انفتاح بؤرة «الدل» الكثيفة على محمول دلالاته الواسعة التي تضمر سرديات مخفية طويلة، تفتح أعيننا على حضور الوطن كسيرورة زمكانية، تبدأ بالحلم والأمل، وتنتهي باختلال معادلات علاقات السلطة بالإنسان؛ ليأخذ الوطن شكل طوفان لم نحتط له! وهنا تغدو شعرية التساؤلية علامة إبداعية على حالات الألم والغضب والتمرد والسخرية، والبكاء أيضًا!
ولعل رمزية «ماء السراب» لا تقف عند وجودها كعتبة أولية تهيئنا للدخول إلى بهو نصوص الديوان وحسب، وإنما تأخذ موقعها في بؤرة حركية القصائد، التي ينوس بندولها ما بين نقيضي الاستحالة والإمكانية، وما بين حدي التحدي وقوة أو انكسارات الاستجابة، حتى نرى أن كل قصيدة تكاد أن تستبطن شيئًا من دلالات هذا العنوان المفتوح على كل شيء.
وشاعرتنا في هذا الديوان تستخدم العديد من أدوات تشعير النص وتغريبه عن ألفة اليومي والمعتاد، فتوهمنا بحضور ذلك اليومي، لكنها ترفعه إلى حالات من الترميز المشع عبر فاعليات المقابلة والفانتازيا والتعارض والمفاجأة، واستخدام ملكاتها التأملية وقدراتها على التركيز والتكثيف.
ونشير هنا إلى بعض قصائدها التي انبنت على تلك السمات، ومنها:
حجامة: (رؤوس لم تينع بعد\ وتقطف تحسبا!!)
الشاعرة تقوم بتغريب القسوة والبشاعة عبر رهافة اللغة، وتوظيف المقابلة بين عمليتي الإيناع والقطف. فالعنوان يوظف فاعلية التضاد الكلي، بين الحجامة كأداة تضمر تنشيط الحركة الدموية في الجسم، رغم بدائيتها، وبين عملية قطف الرؤوس كلية في عملية استباقية لقتل الفاعلية الإنسانية، أكثر بدائية وتوحشًا من يد الحجام الرحيمة!
وتلك المهارة الشعرية البارعة في انزياحاتها من الكنائي إلى الاستعاري هي ما يتجلى في طقوس هذه النصوص القصيرة التي تبرز اشتغال الشاعرة على الانتقال من جمالية شعرية تكوينات اللغة إلى التركيز على شعرية الدلالات، وحيث لا يعود العنوان علامة أو إشارة دالة على فضاءات القصيدة، وإنما جزءًا فاعلاً ومرجعيًّا في عملية تخليق دلالية النص المكثف وشعريته. ومن أمثلة ذلك النسيج الفني المحكم ما يلي:
قالب: (قلبه أضيق من قبلتي \ فيبيت نصفي في العراء)
فلو استبعدنا عنوان «قالب» فيما يحيل إليه كنائيًّا من معاني التطابق السيمتري التام، وفيما يحمله في بعده الاستعاري من دلالات التوافق والتجاذب والتكامل بين شخصين، فإن القصيدة تفقد جذوة دلالتها الشعرية العميقة.
ريبة: (هل أنت بريء ونقي إلى هذا الحد| أم أن عيوني \ ملوثة ومرتابة إلى هذا الحد؟).
ثقب:
(بابنا مقفل بألف ألف قـفل
وعرق قرنفل يطرق القلب
ويدخل عنوة
بماذا رشا الحراس؟!!)
فلولا كلمة (ثقب) التي تحيل إلى حالة اشتياق وتهيؤ وتحد مسبق، لما استطاع عرق القرنفل كسر أقفال مليون باب موصد!!
... ... ...
يتبع في الحلقة القادمة والأخيرة
هوامش
(1)- (شاكر مجيد سيفو - المتخيل الشعري وشفافية الكلمة - موقع الناقد العراقي -
Alnaked _ aliraqi.net)
(2) - سوزان برنار ـ قصيدة النثر ـ ترجمة د. زهير مجيد مغامس ـ آفاق الترجمة ـ الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ـ ديسمبر 1996 -ص 6/ 13
(3)- كل النصوص والمقتطفات الشعرية الواردة في هذه القراءة تحيل إلى مرجعها في مجلد الأعمال الشعرية للشاعرة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت - 2014م.