قاسم حول
تتجدد حكاية السينما والسينما الجديدة الرافضة لسينما شباك التذاكر، في كثير من بلدان المنطقة ومنها تونس، ومصر والعراق والمغرب العربي. ففي بداية السبعينيات، نشأت في تونس حركة نوادي السينما التي انتشرت في أرجاء تونس وتأثرت بها الكثير من البلدان العربية ومنها لبنان التي تأسس فيها أهم ناد للسينما، وكذلك دمشق، حيث تمت دعوة عدد من المخرجين من أنحاء العالم وكان بينهم الإيطالي «بازوليني» والياباني «يوشيدا» وأقيم لهما في بيروت أسابيع سينمائية خاصة بأفلامهم. جرى ذلك بتأثير من سينما جديدة نشأت في العالم على شكل موجات وتيارات سينمائية، أذكر منها «سينما تحت الأرض في أمريكا، والسينما الحرة في بريطانيا، والسينما الجديدة في البرازيل، وسينما بيان أوبرهاوزن في ألمانيا، والسينما الجديدة في مصر، والسينما العربية البديلة في دمشق ولبنان والتي ضمت كافة السينمائيين الطليعيين» وهكذا نشأت في تونس نهضة سينمائية مجددة هدفها نخبة الجمهور المتلقي، التي تركت تأثيرها على موجة سينما تونسية بديلة.
بشكل مواز لأيام قرطاج السينمائي وبعد الإخفاق الكبير لخمسينية المهرجان والانهيار المخجل الذي أحرج وزارة الثقافة التونسية ومركز السينما، وأحرج حتى الدبلوماسية التونسية، فلقد نهضت موجة الشباب والتيار الموازي المجدد لنوع مختلف من الأفلام. فقد نظم «ملتقى السينما بتاجروين» يومي الثالث عشر والرابع عشر من نوفمبر وبعد عشرة أيام فقط من خمسينية أيام قرطاج السينمائية، نظمت تظاهرة تاجروين السينمائية عروضاً سينمائية، ضمت أفلاماً وثائقية وأخرى روائية، من الأفلام التي أنتجت مؤخراً في تونس وبعض البلدان العربية. تضم التظاهرة السينمائية في اليوم الأول أفلاماً لكل من المخرج التونسي «عبد الحق طرشوني» الذي سيعرض له فيلم «حديث القرى الأمازيغية» مع مداخلة للمخرج «طرشوني». وتجري مناقشة مع جمهور المشاهدين. ثم شريط وثائقي بعنوان «صيانة وأنماء مدينة الكاف» ونقاش مع الجمهور، وبعدها يعرض الفيلم الروائي «المغني» لقاسم حول والحائز على الجائزة الذهبية في الملتقى الدولي للسينما العربية في مدينة نابل مع نقاش مع المخرج. أما تظاهرة اليوم الثاني فتعرض فيلم «عيشه» لأنسه سعدي، وفيلم «غربال الحمري» للمولد الخليفي وفيلم «يبقى الأمل» لسمير جبابلي وفيلم «سرابل الحرمل» لبرهان زغلامي ووليد مسعودي.
وبهذه المناسبة، فإن ثقافة سينمائية «أمازيغية» تولد في مناطق المغرب العربي، تجسد الهوية الثقافية للشعب الأمازيغي، فقط تجسيد الهوية الثقافية دون التطلع لهدف سياسي. وفي هذا الاتجاه تتجسد نكهة سينمائية لم نتعرف عليها من قبل. وشريط «حديث القرى الأمازيغية» هو مثال لهذه الهوية الثقافية السينمائية. فلقد رحلت كاميرا المخرج «عبد الحق طرشوني» نحو أقوام تعيش في مناطق جبلية نائية، تكاد البدائية والفطرية أن تكتنف حياتهم بسبب الطبيعة النائية والتاريخ العتيد المضبب، الذي يقف وراءهم. عرفنا الشريط الذي يقف وراءه مخرج تونسي بامتياز وهو أيضا مؤلف الفيلم، الذي ينتمي فيلمه هذا إلى سينما المؤلف، يعرفنا بطبيعة هذه الشعوب ومقاومتها لصعوبة الحياة بسبب البعد عن واقع المدينة، إذ إن المكانية والطقس يفرضان وجودهما على طبيعة الحياة. شاهدت الفيلم في عرض خاص قبل أن يعرض في تاجروين على جمهور يعشق الثقافة والثقافة السينمائية. فأخذتني أحداث الفيلم على مدار ساعة من الزمن إلى الجبال والكهوف لشعب لم أكن أتصور يوماً أن تعيش هذه الشعوب في مناطق حفرت صخور الجبال واتخذت منها بيوتاً ومدارس تؤسس لحياة لا نعرفها. هنا تكمن قيمة السينما الوثائقية التي سادت مع الأفلام الروائية الطليعية بلدان كثيرة من العالم في أمريكا وبريطانيا والبرازيل وألمانيا، وكان يقف وراءها مخرجون عمالقة كان من بينهم الكوبي «سانتياغو ألفارز» والدنماركي «كريستينسن» والهولندي «يوريس أيفنز» والألمانية «تورينداك» والروسي «رومان كارمن» والجزائري «الأخضر حامينا» والمغربي «حميد بناني» والمصري «شادي عبد السلام»، هذه الموجات السينمائية التي بنيت من أجلها صالات سينما تجريبية في أوربا، صار الجمهور يؤمها ويرفض صالات السينما التقليدية وأفلامها التجارية، لكن القفزة البصرية التلفزيونية التي سادت العالم قضت على السينما بشقيها التجاري والبديل، ولفترة طويلة، استنفذت طوال سنوات مهمتها ويكاد الجمهور أن يخرج من الدار ويعود ثانية ويعتاد الذهاب للسينما، وتظاهرة «تاجروين» السينمائية في تونس، تؤكد إعادة حياة المشاهدة البديلة للسينما.
للسينما العربية البديلة نكهة خاصة في شقيها الروائي والوثائقي. فالمخرج الذي لا يستهدف شباك التذاكر لا شك يعاني من التقشف في اقتصاد صناعة الفيلم، ولكن لهذا التقشف سمة مميزة، تستهدف الواقع بتحليل غير مساوم وبجمالية جدلية مع مضمون تلك الأفلام. وتونس التي نهض جمهورها في بداية السبعينيات وقامت منظمات المجتمع المدني بتشكيل نوادي سينما، لسينما طليعية وبديلة هي التي ترفد اليوم مهرجانات السينما التونسية بجمهور واع ومشاهد يرفض ويقبل ويحلل الفيلم السينمائي التونسي والعربي وغير العربي بعين الوعي السينمائي وعين وعي التلقي.
عندما سادت موجة الأفلام السينمائية البديلة في العالم بين أعوام الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، لم تقتصر تلك الموجات السينمائية على الأفلام الوثائقية أو الأفلام التجريبية كما يسود الاعتقاد بل إن موجات السينما الجديدة تأثرت بها أو أثر عليها مخرجون كبار، فلم تكن موجة السينما الجديدة التي ظهرت في فرنسا والتي تمثلت بالمخرج «ألان رينية» في فيلمه «الليلة الأخيرة في مارين باد» وفيلم «كلكتا» للمخرج «لوي مال» وأفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا للمخرجين «دي سيكا وبازوليني وفلليني وإنطونيوني» وأفلام «أندري فايدا» في بولندا، وأفلام «إنغمار بيرغمان» في السويد وأفلام «كوراساوا ويوشيدا» في اليابان، كلها تشكل موجات سينمائية رافضة لأفلام شباك التذاكر، ومن هنا برز تيار السينما العربية البديلة الذي أقام مهرجانا واحدا يتيما بسبب ضعف الإمكانات المادية، وهو مهرجان السينما العربية البديلة عام 1972 الذي عرضت فيه مجموعة من الأفلام الطليعية والبديلة العربية وكان من بينها «أغنية على الممر» لعلي عبد الخالق، وفيلم «الفلاح الفصيح» لشادي عبد السلام، وفيلم «ضفاف على الجانب الآخر» لغالب شعث، وفيلم «مائة وجه ليوم واحد» لكرستيان غازي، وفيلم «نوه» لعبد العزيز الطلبي وعدد كبير من الأفلام الروائية والتجريبية والوثائقية وحققت نجاحا كبيراً وإقبالا غير عادي من قبل جمهور السينما.
اليوم يشعر جمهور المشاهدين، وبعد أن استنفدت التلفزة أو تكاد أن تستنفد مهامها والتي فرضتها طبيعة الحياة السياسية والأمنية، ودفعت المشاهدين للمكوث في المنازل واستقبال الضيف الثقيل ممثلا بالشاشة التلفزيونية التي تفرض شروطها الفكرية والفنية والجمالية على المتلقي، ينهض جمهور المشاهدين ليذهب إلى السينما ويغادر المنزل من أجل حرية الاختيار الثقافية والسينمائية.
تأتي تجربة عروض يومين من الثقافة السينمائية في «تاجروين» لتشكل عودة للسينما الجديدة، دون أن نسقط من الحساب المهرجانات السينمائية في تونس مثل مهرجان «قليبيا» ومهرجان «نابل» وفي المغرب مهرجان سينما المؤلف ومهرجان «زاكورا» وفي مصر مهرجان «الإسكندرية» كبدائل للمهرجانات التقليدية.
الأفلام السينمائية الجديدة هي أفلام تعمل بميزانيات غير منفوخة، ميزانيات لا تستنفد بنودها أجور النجوم، هي سينما الواقع تساعدها اليوم، السهولة التقنية التي باتت متوفرة ومستكملة للشروط الاحترافية من التصوير والمونتاج وكل العمليات السينمائية اللاحقة، ما تمكن موجات سينمائية شابة من خوض التجارب، وثمة مبادرات للعروض السينمائية مدعومة من بلديات المدن أو من المراكز السينمائية أحياناً لإقامة مهرجانات سينمائية موازية وبديلة للمهرجانات التقليدية، مهرجانات النجوم والسجادة الحمراء والبذخ الإعلامي لعروض لا تذهب بعيداً في كشف الواقع الاجتماعي أمام عين المشاهد.
عروض تاجروين في تونس هي بداية لعودة ظاهرة نوادي السينما التي كانت تسود الواقع الثقافي والسينمائي التونسي، والتي تركت تأثيرها على الواقع السينمائي العربي. أفلام كثيرة عربية بدأت تنتج وقد لا تتوفر الفرصة الإعلامية لها، وهي كثيرة جداً ولكنها لم تتبلور كتيار يفرض شروطه الفكرية والفنية الجمالية، مثل فيلم «مرسيدس» اللبناني وفيلم آية والبحر المغربي، وفيلم «أنا نجوم بنت الثانية عشرة ومطلقة» اليمني، وفيلم «حار جاف صيفا» المصري، وفيلم «الباحات السبع» لسمير أصلان، إضافة إلى الفيلم الروائي المصري «نوارا» للمخرجة هالة خليل.
هو صراع سينمائي بدأت ملامحه تتوضح، صراع بين ما هو تجاري وما هو ثقافي، بين ما هو تقليدي وما هو بديل. صراع سوف يترك أثره دون شك على المخرجين والجمهور على حد سواء. عروض تاجروين في تونس هي دفقة ثقافية ستعيد الحياة لتجربة نوادي السينما، التي خلقت جمهوراً سينمائياً يعرف الحقيقة الثقافية السينمائية ويدرك مصادر تمويلها وينحاز لكل ما هو ثقافي بعيداً عن سينما شباك التذاكر.
تونس - خاص بالجزيرة