زكية إبراهيم الحجي
ازدواجية معايير.. تراكيب ثنائية متصادمة وتناقضات مريرة لا يتألم لمرآها إلاّ من يشقى بوعيه، أما من اعتاد عليها فتبدو في نظره حالة طبيعية وصورة مألوفة.. وبقدر ما وجدت الثنائيات المتصادمة وبقدر تفاقم التناقضات في مجتمع ما.. فإنّ واقع حياة ذلك المجتمع سيكون مضنياً ما بين جَلَد النفس ومقدار التناقضات المزدحمة في ذاته ووعيه وفكره.
إنّ إشكاليات التفكير وتحولاته إلى تناقضات حسب المكان والزمان أو بفعل مؤثرات داخلية أو خارجية ليس بأمر جديد.. فالنفس البشرية ومنذ الأزل مكتظة بالتناقضات التي قد يحتاج الباحثون وعلماء النفس إلى مزيد من الوقت لاكتشاف أسرارها ومعرفة كنهها فما خفي منها أعظم مما يظهر للعيان.
صفة الاختلاف أو عدم التوافق بين القول والعمل، أو الاعتقاد دون ممارسة فعلية وغياب الاتساق الفكري والسلوكي، قد يخلق نظرة دونية تجاه الفرد أو المجتمع بأكمله، بل وتجعل المتصف بهذه الصفة في حالة نزاع وتضارب دائم مع ذاته، وربما أيضاً مع المحيطين به بسبب الأفكار والسلوكيات التناقضية أي ما بين قوله وعمله.. الملفت في الأمر أنه صار حديث مجالس.. بل بات واضحاً جلياً في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.
والحقيقة أنّ مجتمعنا لا يخلو من صور هذه التراكيب الثنائية المتنافرة والتناقضات الصارخة، والتي تعكس نتاجاً مشوهاً للتفكير والذات والوعي، وأخذت تزداد يوماً بعد يوم فعمت مجالات الحياة، بل استبيحت في مجالات السياسة والإعلام.. في العلاقات العامة والممارسات الرسمية.. لعل أبرز مظاهر وصور هذا المخاض المتأزم، ما يراه الشباب أو يسمعه من خلاف فكري أو فقهي بين جماعات مختلفة، وتخرج بخلافاتها من إطار الحوار إلى أجواء الخصومة وضيق الأفق.. ولعل أكثر التناقضات أثراً وتدميراً خاصة في نفوس الأبناء والشباب.. هو تناقض الأقوال والأفعال الصادرة من الآباء والمربين والقادة والمرشدين..أيضاً من الشواهد والنماذج التي تعكس تناقضات صارخة في عصرنا الحالي، أن يتحدث مسئول من خلال وسائل الإعلام عن الأمانة والإخلاص في العمل، واحترام أوقات العمل ومحاربة الوساطة والفساد، وهو أبعد عن ذلك تماماً.. بل إنّ قمة التناقض أن ترى شخصاً يدعو إلى الوطنية وتعميق مفهومها بين أفراد المجتمع، لكن أفعاله تخالف أقواله، فالعنصرية القبلية والعنصرية المناطقية هي ما يمارسها في حياته اليومية كسلوك وفكر وثقافة.
أعجبني ما كتبه الأديب الأسكتلندي «روبرت لويس في روايته دكتور جيكل ومستر هايد»، حيث يقول: يبدو أنّ الإنسان يستطيع أن يكون شيئاً ثم ينتقل إلى النقيض، بمجرد أن يشعر أنّ أمراً ما قد مسَّ أمراً من أموره الشخصية، وضرب عدة أمثلة على ذلك منها: أنك قد تجد إنساناً ما مثالياً في أخلاقه وينقلب إلى انعدام الأخلاق في حياته الخاصة أو عند مواقف معيّنة يمر بها.
هكذا نحن في مجتمعنا.. فرغم ما نتمتع به من علم ومعرفة واسعة، إلاّ أننا نفتقد المنطق والحكمة، فضاعت كثير من الفرص القيِّمة الصادقة وتحوّلت حياتنا ما بين جَلَد النفس وثنائية التناقضات.