أسامة الزيني
أن تكون في المنتصف، على مسافة واحدة من الجميع، تقبل الجميع، تؤمن بقيم التجاور، والتعددية الفكرية، والتنوع الثقافي، والمجايلة الإبداعية والإنسانية والاجتماعية، أن تؤمن بالتعايش الإنساني مع الآخر أياً مَن كان، وأينما كان، وكيفما كان، أن تنبذ كل دعوة للتمييز على أساس العرق أو النوع أو اللون أو المذهب أو الدين، أن تأخذ من كل فكر بطرف، تنتخب من بنود كل نظرية أقربها إلى قيمك الجمالية، مع الإقرار التام بحق الآخر في اعتناق ما يشاء من أفكار، أن تتماهى مع جميع الثقافات، أن تتعاطى مع جميع الأطروحات، أن تتصالح نفسياً مع الجميع، أن ترى أن كل فريق يسلك درباً مختلفاً في طريقه إلى الحقيقة نفسها، أنهم جميعاً إصلاحيون كل منهم له منهجه في الإصلاح، أنهم جميعاً مخلصون يصيب منهم من يصيب ويخطئ من يخطئ، أن تثق بأنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، لا أحد يملك صك وكالة من السماء، لا وصاية لأحد على أحد، أن تقرأ لابن عباس، والزمخشري، والنظّام، وابن تيمية، وجلال الدين الرومي، والغزالي، وابن رشد، وأفلاطون، وهيجل، وكانت، وكارل ماركس، وألبير كامو، أن تمارس السباحة الحرة في فضاءات المعرفة والإبداع الإنساني بجميع لغاته وعلى اختلاف أجناسه وجنسياته، أن تكون الكلمة سبيلك، أن تكون الكلمة دليلك، تتفق معها أو تختلف لا مع قائلها، أن تكون الحقيقة غايتك، أن يكون النفع أمنيتك، أن يكون الإصلاح نيّتك، برأيك أو برأي غيرك، بيدك أو بيد غيرك، أن تنحاز إلى الجميع بقلبك، أن تكون معهم بجوارحك، مع التحفظ بلطف على ما لا يتسق مع قناعاتك، أن تنخرط تماماً في كل ملتقى أو مناسبة أو فرصة أو حتى حديث عابر مع راكب حافلة بجوارك يكبرك أو يصغرك بعشرات السنوات على سبيل تعزيز روح المُجَايَلَة الفكرية والإنسانية، أن تنأى بنفسك عن أي دعوة لإقصاء الآخر أو نبذه أو كراهيته، هذا كله يعني أنك أصبحت في مرمى نيران الجميع. فبدلاً من أن تصبح نقطة يتقاطع فيها الجميع ليأخذوا هدنة من العراك الفكري والإنساني، ستصبح نقطة يتعارك معها الجميع ويستهدفونها، ففي ظل حالة الاحتقان الفكري العام التي تشهدها المنطقة العربية الآن لم يعد أحد يقبل منك إلا أن تكون «مع» أو «ضد». القراءة المتعجلة للمواقف والاكتفاء بالعناوين التي قد تخدعنا من دون محاولة للاطلاع على التفاصيل أصبحت طبيعة المشهد العام، التحفظ البسيط على طرحٍ ما لطرفٍ ما يكفي تماماً لوضعك في قائمة الآخر الدو من دون أي فرصة للمناقشة، ومن دون ترك أي مساحة لإنكار ما سيتبع ذلك من اتهامات وافتراءات ومسبّات من مشجعي هذا الطرف أو ذاك. تَحَفُّظك على «هذا» يعني مباشرة أنك أصبحت تلقائياً مع «ذاك»، وتحفظك على «ذاك» يعني أنك أصبحت تلقائياً مع «هذا»، ثم عليك بعدها أن تتلقى وابلاً من اللعن والسب والاتهام والتخوين والنيل من إنسانيتك وكرامتك ووطنيتك ودينك وعرضك وعرض أمك وأبيك وأسلافك وأسلاف أسلافك، من «هذا» و»ذاك». وربما ينتهي بك المطاف ممدداً في بقعة من دمائك إن قادك سوء حظك إلى تكفيرك على أيدي أحد فصائل اليمين المتطرفة، أو اتخاذ قرار تصفيتك قِبَل أي من الأطراف التي تبحث عن ضحية تفتعل بها احتقاناً، أو ربما تشعل بها ثورة من تلك الثورات التي تُوقَد نيرانها هنا وهناك في كل بقعة من بقاع محيطنا العربي الذي يُراد له أن يصبح ساحة مترامية الأطراف من الفوضى العارمة. الجديد في المشهد فوق هذا التطرف والتمترس الفكري والثقافي، دخول العوام والمراهقين وأنصاف المتعلمين وأرباعهم على المشهد الثقافي العام، واستقطابهم من قِبَل نخب وتيارات وفصائل فكرية لم تعد تعبأ أن تدفع مجتمعاتها وأوطانها ثمن انتصارها فكرياً على الآخر من سلامها، واستباق كل فصيلِ الآخرَ لصناعة جمهوره منهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وتكديس حشوده التي يديرها في أثناء خوضه ممارساته، وربما اشتباكاته، السياسية، على الأرض. هذه الحشود التي تقوم بدور المجموعات في مشاهد صناعة الفوضى التي تعج بها المنطقة العربية، لديها مهام أخرى، ربما بتكليف من الفصائل التي تدير حشودها، وربما اجتهاداً من أفراد تلك الحشود، تتركز في الزحف على حسابك على موقع التواصل الاجتماعي، أو على صفحة مقالاتك في إحدى الصحف، لتَكِيل البذاءات لك ولآلك، إن بدا منك أنك تحيد في جملة واحدة عما تم تلقينهم إياه في صفحات هذا الفصيل أو ذاك. أيضاً ستكون معرضاً لهذا الفاصل من البذاءات والتطاول الفاحش عليك إن بدرت منك جملة تصالح مع مبدأ أو ممارسة أو موقف لفصيل آخر مختلف، أو لشخصية غير مرضي عنها لدى صانعي هذه الدُّمَى التي تعمل بطاقة الكراهية المتجددة والرفض الأوتوماتيكي وفق قائمة بيانات وتعبيرات وألفاظ وأعلام تم إدخالها إلى شرائح افتراضية بدائية محدودة السعة داخل عقولهم، في أداء يفتقر إلى أدنى درجات ذكاء القراءة أو التحليل أو الربط أو الاستنتاج، لا يعصم عرضك من آلات السب الحادة التزودت بها أفواههم، إنصافُك أو موضوعيتُك. حتى إن ما قد تورده من معلومات وبيانات وإحصاءات موثوق في مرجعيتها ستصبح بالنسبة إلى هؤلاء هراء ومحض كذب وافتراء، فالشرائح الافتراضية المزروعة في رؤوس هذه الكائنات غير مزودة بأي أيقونات لبرامج تحليل أو إدراك، والحكم عليك في دوائرهم يقوم على الاشتباه، يليه على الفور الاشتباك المباشر معك. هذا شأن، واللجان الإلكترونية المنظمة التي تعمل لخدمة هذا التيار الفكري أو ذاك، وربما لصالح جهات خارجية معادية، مهمتها توجيه الرأي العام في اتجاه ما، شأن آخر، والفارق بين هؤلاء، وأولئك غير المنظمين، أن أولئك ينالون منك بجهل لاشتباههم فيك، أما هؤلاء فسينالون منك عمداً عن علم؛ لأن أحد برامج أجنداتهم قصف كل من دونهم، وعدم السماح لأمثالك من المعتدلين الوسطيين دعاة التصالح والتعايش بإفساد أجواء الاحتقان والاستقطاب والاصطفاف التي يسعون لنفث عوادمها في الفضاء الفكري العام، وخلاصة المشهد أن الجميع سيستهدفونك؛ لأنك لن تكون على خريطة أي منهم. ستكون بالنسبة إليهم نقطة غامضة موضع شبهة بالنسبة إليه، فلن يضيع الوقت في فهمك وتفسيرك، هذا إن كانت لديه القدرة على الفهم أو التفسير، أو الرغبة فيهما، وسيشتبك معك لفظياً على وجه السرعة، ليذهب إلى غيرك.
لكنك يا صديقي منذ ولدت وشعور ما يعتريك أنك لم تأتِ إلى هذا العالم لتشتبك مع أحد، أن الحياة أقصر من أن تستهلكها في معركة وجود تنتهي بفنائك أنت وضدك، ربما لصالح آخر يستثمر هذا العراك في خدمة وجوده هو وقومه، تاركاً لك أنت وقومك ساحات الحرب تتصارعون فيها كالوحوش في البرية.
اعلم يا صديقي، أن كل معركة في هذا العالم إما تنتهي بفناء أحد طرفيها، فاحرص على ألا تنجر إلى ساحة قتال ستكون فيها لا محالة قاتلاً أو مقتولاً، وإما تنتهي بصلح بين طرفيها بدعوة من حكماء عقلاء راشدين يجمعون من بقي من سنوات الحرب من الفريقين وقد أنهكا، وتقطع نسلهما، وشردا في البلاد، فيخضعون جميعاً صاغرين لأول نداء للسلام، يومها سيكون بوسعك يا صديقي أن تقول ما تشاء، سيجلسون بين يديك أنت ورفاقك من الحكماء، سيؤمنون بكل ما آمنت به من قيم التعايش والتصالح والتجاور وإعلاء مصالح الأوطان، سيهزون لك رؤوسهم المتعبة بالموافقة على كل ما تقول، سيندمون على كل ما كان. ما نرجوه يا صديقي، ألا يحدث هذا، بعد فوات الأوان.