د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تتوالى المنصات الوطنية المحفزة التي يتبنى صناعتها مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني ذلك الكيان الذي دائمًا ما يؤكد لنا واقعه أن له نكهة حوارية وخصوصًا أن اختلفت في سلطاتها العلمية والمعرفية، ففي الأسبوع الماضي أقام المركز لقاءً وطنيًا بعنوان (التعايش المجتمعي وأثره في تعزيز اللحمة الوطنية)، ومن أهداف اللقاء تحقيق القيم الفكرية والاجتماعية التي تعزز منهج التسامح والعدالة واستنهاض المجتمعات للقيام بمسؤولياتها ونشر الحصانة ضد العنصرية والكراهية؛ كما يحقق بناء جسور متينة من التواصل والتعايش الودود المنتج.
وما قام به المركز في ذلك اللقاء غزير في محمولاته، ومنصة فكر واعٍ وانفتاح على جميع نوافذ الوطن وبواباته لتحقيق المصلحة الوطنية المشتركة لتوليد منظومة حب كبيرة، حيث اعتلى منابر الحديث في جلسات اللقاء نخبة مختارة من ذوي الفكر النامي، فأسهموا في تحديد مفهوم التعايش وبواباته، ووقفوا من خلال طروحاتهم على منعطفات انحسار واقع التكيف الاجتماعي قصدًا أو من وراء جُدر، وكثير من الطرح كان يبحث عن المسببات عند أولئك الذين لا يتمثلون التعايش منهجًا، كما أسهب المتحدثون في البحث عن تفسيرات لواقع أولئك النافرين من مجتمعاتهم، ولكنهم أجمعوا على أنه واقع موجود، وإن توارى، ولقد بدا مفهوم التعايش ذهبيًا براقًا خلال الطروحات، ولكن يبقى اقتناؤه محطات يجب أن تسيّر قطاراتها إلى الوجهة الصحيحة،
وفي السياق ذاته عرض أحد المتحدثين الكرام مضامين «صحيفة المدينة المنورة» التي حُرّرت في عهد نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم، وعرض آخر بيانًا لسماحة المفتي العام، وعُرضت رؤى ودراسات قام بها ذوو اختصاص، وطروحات وآراء صدرت من ذوي بصيرة، وكانت أذهان الحضور تلمس المحتوى الجاد الذي دارت الجلسات حوله، والأهم أن الشعور العام خَلُص إلى أن التعايش المجتمعي نظام وعمل، واستنبات للوعي واليقين بأنه رديفٌ للاستقرار والحضارة، والأمن ومن ثم القوة والتمكين، ولا بد لتحقيقه من تطوير أدوات التعامل مع التعليم والتربية، وترقية العلاقات بين الناس، وألاّ يكون الصعود الاجتماعي هروبًا من المسؤوليات.
ويؤسس لذلك كله نظامٌ تشريعي يرسم حدوده، ومن قواعد النظام الرقابة وهي في مفهومها العام هداية الأفراد لصواب أفعالهم وإصلاح خللها قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أمن يَمْشِي سويًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ومن أوتاد النظام أيضًا العدالة في الحقوق والواجبات، وكفاءة أنظمة الاستقطاب لقيادة مصالح الناس، وأن يكون لكل شأن دنيوي مرجعيات واضحة في نظامها ومهامها تُسهم وفق تمكينها في ذلك القطاع من إشاعة الرضى بين الناس، وغير ذلك كثير من ممكنات النظام الذي يحمي التعايش المجتمعي من الانحسار والفوضى.
أما التسامح والرفق فذلكم ترياق التعايش يتحقق عندما تصفو المنابع الأخرى التي عرجتُ عليها، وقد تبدو هذه الخصال لممارس الحياة اليوم من العناصر المعطّلة، خاصة عندما تتحول بعض المواقف إلى حالات من الطوارئ، وتهزمها تعددية طباع البشر، واختراع مترادفات جديدة للقيم النبيلة، وفي رؤيتي المتواضعة؛ أن ثمة حضورًا قويًّا للعفو والتسامح؛ حملته أجيال قبلنا؛ وأسهم في تشكيل رؤية الإنسان لتلك القيمة الإسلامية العظيمة؛ وأنها أصبحت في رهن أوقاتنا الحالية مطلبًا لتسيير الحياة وأفلاكها وتوليد التعايش في كل فضاءاتنا.